تهجير الفرات، الأسم الخفي لحملة ميليشيات سوريا الديموقراطية

الرقة تذبح بصمت

تهجير الفرات، الإسم الأنسب للحملة التي اطلقتها ميليشيات سورية الديمقراطية تحت شعار “غضب الفرات” بغية الأستيلاء على ريف الرقة وحصار المدينة خلال حملتين إنتهت الاولى وبدأت الثانية راح ضحيتها مئات الشهداء وآلاف المهجرين بالإضافة لعشرات القرى التي جرفت بكاملها بحجة “داعش” الذي أصبح شماعة لتنفيذ كل المشاريع المارقة على حساب دماء السوريين وأرضهم.

شهران من “غضب الفرات” كانت مشابهة على السوريين في الرقة وريفها للـ ثلاثة أعوام “الداعشية”، كان المدنيون ضحايا الأول بالتهجير والثاني بالقتل، وفي الحالين عقوبة أشد من الاخرى فالتهجير لايقل ألماً عن الموت، وهو من أقسى العقوبات التي فرضتها التشريعات الالهية والقوانين الوضعية في كل زمان ومكان.

خمسون آلف مدني في ريف الرقة الشمالي وحده، كانوا ضحايا التحرير المفترض، جُّلهم يعيش آلان في مخيمات الموت قرب بلدة عين عيسى وأخرون على الطرقات كل من وجد لنفسه خيمة تأويه الى أن يقضي الله عليهم بالرحمة والفرج.
مخيم عين عيسى الذي أنشأه مدنيون من أهالي المنطقة في “صوامع الحبوب” لايمكن تسميته إلا بالمعتقل أو المحرقة، فهذا قد يكون أقرب توصيف لعشرات الخيم القماشية التي لا تمنع برداً أو حر ولا ماء أو هواء، التي لا توفر لسكانيها أدنى مقومات الحياة، الحياة فقط وليس الحياة الانسانية بخصوصيتها.

عندما تشتد الرياح المصحوبة بالمطر، ننزل الخيمة على الارض بعد أن نمتد جنب الى جنب داخلها ونثقل زواياها بالحجر خشية خلعها من شدة الرياح، هذه عملية كان يقوم بها اجدادانا قبل عشرات السنين في ترحالهم وتوارثها أبائنا ولم يستعملوها، وها نحن الأن بأمس الحاجة اليها، تصور في القرن الواحد والعشرين ونحن نستخدمها قال “أبو عبد الله” ثم شهق بسيجارته “اللف” وأمعن النظر جنوباً حيث نشأ وكبر هناك في بيت ريفي بني من الوحل واحجار “اللُّبن”.

يتابع “أبو عبدالله” الرجل الستيني حديثه عن التهجير الأخير قائلاً، بلغت من الستين وهذه المرة الاولى التي أخرج طيلة هذه الفترة عن داري وأرضي مرغماً، تصور يابني عندما أرسلت قوات النظام أرتالها من اللواء 93 الى الفرقة 17 ومرت بجانب بيتي لم أخرج، كان الموت أهون علي من الإجلاء، وها أنا اخرج بعد أن وضعوا المسدس في رأس زوجتي وبناتي.

عندما تتجول بين الخيام، ستجد أن “أبو عبدالله” افضل حالاً بهذه البقعة الجغرافية التي تسمى مخيم، هناك أم عبدالله وأم أحمد وفهيمة وعوش دون أزواجهن وأبنائهن، نساء من هذه الارض غاب رجالهن بين معتقل وشهيد، بين من أبى الخروج وغيبه الرصاص ورماته المحررون.

كان صاحب حظ عظيم من يملك خيمة لا ثقب فيها يغطي ظهرها “المشمع” الذي يمنع الماء والهواء من الدخول، وهناك من يملك تعاسة اكبر من كل الدماء التي سالت ولم ينل في نصيبه إلاعدة أكياس قمح جعل منها خيمة وبيت، هناك ما لايمكن أن يتصوره عاقل ومجنون، كيف لهؤلاء أن يقضوا شهوراً هنا كيف يأكلون وينامون ويشربون، كيف يكون هذا كله !!!

لم أكمل جولتي التي كان من المفترض أن أتفقد حاجيات كل من هنا، لم أُكمل ذلك فهؤلاء يحتاجون كل شيء دون إستثناء، لا يمكن أن تكتب وتسجل شيء، ما يمكن أن يكتب فقط انهم أحياء وحالمون.
بالعودة الي “تل ابيض” على الأوتستراد الدولي، لا تجد ماعهدته قبل سنوات، هناك من يبيت على الطرقات، جاعلاً من أقنية المياه منزلاً مسقوفاً بـ “الجوادر” وأخرون في مقطورات جراراتهم، حتى تصل الى حاجز المدينة الذي يتمركز به عناصر الوحدات الكردية والتي تمنعهم من الدخول الىى مدينتهم بحجة “الدعشنة” إلا بشهادة شخص مشهود له عندهم ويحمل على عاتقه أي مكروه يخرج منهم، بالإضافة لتوفير مكان كافً يسكنون فيه ويمنع عليهم البقاء في الامكان العامة ” المدارس- المشافي- المنشأت الحكومية-” الخ .. وذلك حفاظا على المظهر العام للمدينة الذي تزينها أعلامهم الصفراء وصور قادتهم ذات الابتسامات الصفراء أيضاً والتي ورثوا أماكنها وساريتها من سابقيهم داعش وقبلهم الأسد والبعث.

لا يمكن إحصاء من يعيشون في هذه الأوضاع لكثرتهم وأنتشارهم الواسع في الأراضي الفارغة، لكن بالتأكيد لايمكن تأمينهم الا بعودتهم التي لايعيقها شيء إلا مشاريع التغيير الديمواغرفية التي تمحي قراهم وبيوتهم.

في عادات وأعراف الحروب، يجلى المدنييون خشية عليهم، لكن الحروب الصفراء التي تمارس في البلاد يجلى المدنيون خشية منهم لا عليهم اما الأعداء المفترضين لاخوف منهم ولا هم يحزنون يجلون وينسحبون قبل ضغطة زناد واقلاع طائرة.

مع تقدم القوات الانفصالية وإنسحابات تنظيم داعش، يزداد عدد المهجرين وترتفع نسبة المقهورين أضعاف مضاعفة نتيجة الكثافة السكانية التي تتركز في ريف الرقة القريب، هذا كله في الريف، قبل المدينة التي لا يدري أحد مصيرها ومصير أهلها المتروكين منذ سنين، ولا هناك معين أو مغيث لهذه المأساة والقادمة التي ستكون أكبر بكثير. لا يحتاج أهل الرقة لنداءات إستغاثة أو حملات داعمة، فهذا العالم باسره يعرف ماحدث ويحدث ولم يكتفي بالصمت فقط بل أيد وحرض ودعم لهذه الكارثة التي تحمل راية التحرير ومحاربة الاره