الهروب من جحيم “داعش” في الرقة – طريق الموت والدموع

عائلات هاربة من الرقّة تضطر إلى قضاء ثمانية أيام بلياليها على طريق السفر سيراً على الأقدام في رحلة الفرار المحفوفة بالمخاطر هرباً من داعش وإجرامه. تجوب في رحلتها هذه معظم مناطق الشمال السوري التي تشهد حرباً لا هوادة فيها.

تجلسُ أم محمد في زاوية الغرفة، وقد احتضنت وحيدها بين يديها، بينما تجمّع رفاق رحلتها غير بعيدٍ عنها. أبو ياسر ينفث دخان سيجارته شارداً، وبقيّة الأطفال تحلّقوا حول مائدة العشاء المكوّنة من بضعة أرغفة من الخبز، وحبّات من البطاطا المسلوقة. تقول أم محمد: “إنّها رحلة الهروب من الموت إلى الموت، فقد كانت الحياة مع مجرمي داعش أشبه بالموت، والوضع في حلب أيضاً لا يخلو من احتمالية الموت؛ إلا أنّ الموت على يد داعش يُعدّ موتاً مضاعفاً”.

تُفيد التقارير الواردة من داخل الرقة، وهي قليلة بطبيعة الحال، أنّ التنظيم اتّخذ سياسة تجويع المدنيين نهجاً له، بهدف إخضاعهم وإجبارهم على مبايعته، عن ذلك تقول أم محمد: “لم يعد بالإمكان أن نحتمل أكثر”. أم محمد كغيرها من أهالي الرقة الذين أثقلت الأوضاع كاهلهم، حيث فرض تنظيم “داعش” رسوماً باهظةً على كلّ شيء، بما في ذلك القطّاع الصحي، أو ما تبقى منه داخل المدينة.

ضرائب وتجويع

وتُضيف قائلةً: “فرضوا الضرائب على كلّ شيء، ونحن نعيش على المرتّب الذي أتقاضاه من عملي في وزارة التربية، وفي الوقت نفسه يمنعوننا من السفر إلى مناطق النظام لاستلام رواتبنا؛ إنّهم يقومون بتجويع الناس كي يجبروهم على مبايعتهم، ولازال كثيرٌ منّا يرفض ذلك”.

الهروب من جحيم "داعش" في الرقة - طريق الموت والدموع
إحدى محطات طريق الهاربين من “داعش” DW

أمّا عن كيفية تدبّر المدنيين أمورهم المعيشية، فيقول أبو ياسر: “بعض الناس ضحّوا بكل شيء وخرجوا، وبعضهم لديه ما يكفيه ثمن رحلة لجوءٍ أو فترة إقامة مؤقتة في تركيا، وقسمٌ كبيرٌ ممن بقي داخل الرقة يعيش على المساعدات التي يرسلها الأقارب الذين خرجوا”.

وعن معاناة المدنيين داخل الرقة، تقول أم محمد: “هم يكرهون المدنيين، ويعرفون أننا نكرههم، لكنّهم يريدون طردنا خارج بيوتنا، ليأتوا بعناصر جدد يسكنوهم في منازلنا، إنهم محتلّون”.

خيارات المدنيين: الموت أو الموت

الموت أهون على أبي ياسر من إجباره على ترك منزله، حسب وصفه، ولولا طفلته المريضة بالسرطان، وتعذّر معالجتها داخل الرقة، ما كان ليغادر بيته، يقول: “لبست الإزار وأطلقت لحيتي، تعلّمت مهنة الخياطة كي أتمكن من العيش، أبديت كل ما بوسعي كي أتأقلم مع الحياة بمعزلٍ عن أولئك الهمج، إلا أنّ مرض ابنتي كسر ظهري، وجعلني أخرج أملاً بتوفير العلاج لها”.

عرض أبو ياسر منزله للبيع منذ أشهر، إلا أنّ أحداً لم يتقدم لشرائه، فلا حاجة لأحد به، فضلاً عن ذلك، لا يوجد أحدٌ يملك المال اللازم ثمناً للبيت باستثناء عناصر “داعش” الذين تمتلئ جيوبهم بالدولارات، وهم ليسوا بحاجةٍ لشرائه ماداموا قادرين على الاستيلاء عليه، يقول أبو ياسر: “لقد وقّعت على وثيقة تنازل بجميع ممتلكاتي لصالح التنظيم في حال عدم رجوعي إلى الرقة بعد ثلاثة أسابيع من تاريخ خروجي”.

لقد دفع كل شخص من هؤلاء الهاربين من جحيم داعش مئة ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 180 دولاراً، وهو مبلغٌ باهظٌ بالنسبة لكثير ممن بقي داخل الرقة، ويسعى إلى الهرب من ظلام “داعش” بأيّ وسيلة.

المصائب لا تأتي فرادى

تقول أم محمد: “تستغرق الرحلة من الرقة إلى حلب سابقاً حوالي ساعتين في الحافلة؛ قضينا ثمانية أيامٍ إلى أن وصلنا مدينة إعزاز، ثمّ اضطررنا إلى البقاء يومين في إحدى المدارس حتّى نتمكن من الدخول إلى مناطق النظام في حلب”.

يقطع الهاربون عادةً مسافاتٍ شاسعةً في الحافلة، حيث يسلك سائق الحافلة طريقاً وعرةً عبر الأراضي الزراعية ليلتف من خلف حواجز “داعش”، وبعد ذلك يتابعون طريقهم سيراً على الأقدام، وقد يسيرون مسافاتٍ تصل في بعض الأحيان إلى عشرين كيلومتراً.

ويضطّرون أحياناً إلى توسيع دائرة سيرهم خلف حواجز “داعش”، حرصاً منهم على عدم اكتشاف أمرهم؛ تضيف أم محمد: “قال لنا المهرب سنمشي مسافة ثلاثة أو أربعة كيلومترات على الأقدام، ومن ثمّ تأتي سيارة أخرى من الطرف المقابل ستوصلنا إلى وجهتنا”.

إلا أنّ الرياح أبت أن تأتي على هؤلاء الهاربين بما اشتهته سفنهم، إذ سرعان ما علا أزيز الطائرات فوقهم، وبدأت تلقي حممها على تلك القرى خلفهم، فأحالت ليلهم نهاراً، تقول أم محمد: “لقد انبطحنا على الأرض جميعنا، لم نشعر بوخز الأشواك تحتنا، كانت الدماء تسيل منّا دون أن نعرف أين مكان الألم”. جميعهم كان يتمنى في قرارة نفسه أن تُدمّر تلك الطائرات مراكز “داعش” الدموية، ولكنّهم في الوقت ذاته كانوا يخشون على من تبقى من المدنيين. إنّها مشاعرٌ لا يُحسدون عليها.

الهروب من جحيم "داعش" في الرقة - طريق الموت والدموع
مدرسة تحولت إلى مأوى للاجئين في إعزاز السورية DW

مستجيرون من الرمضاء بالنار

يُكمل أبو ياسر حديثه: “انطلقنا من مناطق داعش، ثمّ أصبحنا في منطقة اشتباكات مع الجيش الحر، يُغطيها طيرانٌ يقصف خبط عشواء، نجونا بأعجوبة من القصف الشديد، لنتوجّه بعد ذلك إلى مناطق الأكراد، حيث لم يُسمح لنا بالدخول دون كفيلٍ من سكان هذه المناطق يكفلنا”.

تتزاحم الدموع في عيني أبي ياسر، لتكمل أم محمد الحديث: “كلّ ما لقيناه في سفرنا يهون علينا أمام ما عايشناه من جنود الأسد وحماة الديار، فالجميع ينعتنا بـ’الدواعش’، وينظرون إلينا باحتقار، ناهيك عن الإهانات النفسية والجسدية”.

يُعاني كثيرٌ من أهالي الرقة في سفرهم إلى مناطق النظام، فهم مرتدّون وخونة في نظر الـ”دواعش” بسبب سفرهم إلى مناطق النظام، ومن جهةٍ ثانيةٍ هم “دواعشٌ إرهابيون” في نظر جنود الأسد، ليصبحوا عرضةً للابتزاز والاعتقال لأي سببٍ؛ فضلاً عن نظرة الاحتقار والدونية التي يتعاملون بها مع أولئك المدنيين الذين لم يكن لهم حرية اختيار الدولة التي قامت في مدينتهم.

ولو كان بوسعهم الاختيار لما اختاروا الأسد منذ بداية ابتلائهم به قبل عقود.

 

المصدر : DW