الرّقة: يوم في حياة محام

خاص – الرقة تذبح بصمت

يا وسفة… كلمة رقاوية تعني بالعربية الفصيحة وا أسفاه.

الكلمة الأولى التي نطقها المحامي السابق (…) من أهالي مدينة الرقة، المحاماة التي كانت يوماً ركيزة أساسية من ركائز الجهاز القضائي، ورغم بعض الاعتراضات على نزاهة هذا الجهاز في زمن البعث، إلّا أنّه كان يضم كثيراً من الرجال الشرفاء أمثال المحامي (…)، الذي يحترمه أهالي المدينة، ويشهد له كثيرون في زمن النظام، بأنّه كان يتحرى النزاهة، قدر المستطاع، في أي فعل أو قول.

ومع بداية الثورة، بدأ عمله بصمت وبلا ضجيج إعلامي، فأخذ على عاتقه الدفاع عن المعتقلين المشاركين بالتظاهرات، أو أي شكل من أشكال الحراك السلمي، كما دافع عمّن لا يستطيعون دفع مبلغ التوكيل، من ماله الخاص وتبرعات بعض الأصدقاء.

وبعدما أصبحت الرقة مأوى للوافدين من مختلف المحافظات، وتجاوز تدفق النازحين إليها طاقتها، بادر المحامي، الذي يدافع عن المعتقلين نهاراً ويجمع التبرعات للنازحين مساءً، ليطرق الأبواب، ويدخل القلوب قبل البيوت، مقدّماً مساعدات عينية أو مادية، ويعود خالي البال واليدين.

ولم يتوقف المحامي عن عمله الإغاثي، الذي أصبح جزءاً من شخصيته، فتراه بين ممرات وأروقة المحكمة حاملاً بعض الأكياس التي يرسلها إليه من عَرف عنه حرصه على فعل خير لأي محتاج، وبعدما تحررت الرقة المدينة، ارتجل وبعض الأصدقاء، عدة طرق لحماية الأوراق الرسمية المدنية وحقوق الناس الموجودة بها، وأخذوا يجرون بعض التدابير لحمايتها من أي تلف أو ضياع، فيوزعون بعضها ويصنفون ويحفظون، ليتم غالب العمل بنجاح ويُحفظ ما حُفظ بفضلهم.

استمر على هذا الحال، من مغيث ومعين إلى ناصح للذين يسافرون خارج المدينة يقصدون دائرة حكومية في باقي المحافظات، فكان المرجع لأي سائل ينصح ويرشد ويعلّم ويعطي دون هوادة إلى أن جاء اليوم المشؤوم، عمّ السواد درة الفرات واستولت داعش على المدينة، وفرضت ما فرضت من قوانين وتشريعات، لا يعلم إلا الله من أي مرجع أتت، ومن أي كتب أُخذت، وكانت الصدمة كبيرة له، حين منع التنظيم مهنة المحاماة، وجرّم كلّ من عمل بها تجريماً كفريّاً لا يقبل نقاش ولا تفاوض، إذ تعرض أكثر محامي المدينة، للإهانة والمضايقة، بحجة أنّ هذه المهنة أُخذت من الغرب الكافر، ويتبع جميع العاملين بها ودارسيها للكفار، وتجب عليهم الإسستابة والتبرؤ منها ومن دراستهم وإحراق كلّ ما يربطهم بها. ودون سابق إنذار أصبح الرجل الذي قضى أكثر سنين حياته ما بين دراسته ومهنته، مداناً بحكم (الكافر)، منبوذاً لا يجب الإقتراب منه ولا من أفكاره، ولا يُطلب منه استشارة ولا يؤخذ منه عِلم ولا مشورة، عاطلاً عن العمل والحياة والتفكير، وأي مخالفة تكلّفه حياته.

اليوم وبعد الخمسين بقليل،
العم والأستاذ والمحامي المحترم يتجوّل بعربة تُجرّ باليد، يجوب بها الشوارع يبيع الخضار، وقد انحنى ظهره قليلاً من تعب يومه وثقل ماضيه، يطاطئ رأسه وينادي بصوت أجهشته النوائب،”يا وسفة بيذنجان أسود مثل قطران، للمحشي ما ينفع وللكبسة ما يطلع، يا فلان ضاع العمر يا فلان”. والمعنى في قلب العمّ، وهذه عادة يشتهر بها أهل الرقة للتعبير والإعتراض على أي طاريء، إذ يستعينون ببعض أبيات من السجع (شكل من أشكال المعارضة أو السخرية الخفية بين الأبيات)، ويستمر مسلسل القتل بمختلف أشكاله لكلّ أشكال الحياة، فأمثال الأستاذ المحترم كثر، ممن تحولوا إلى لاشيء، بفعل أناس لا يعلمون لايفقهون، لايبصرون، وفي عقولهم غشاوة، لتبقى الرقة تذبح بصمت .