عرفتُ مدينة الرَقّة.. قبل زيارتي لها بكثير.
عرفتها من قصص ومقالات د. عبد السلام العجيلي؛ كما عرفتُ مدينة السَلميَّة.. من قصائدمحمد الماغوط؛ وكما عرفَ سوريون غيري مدينة إدلبَ.. من كتابات حسيب كيالي.
كيف كانت ستبدو الرقة لي.. حين زرتها؛ لو لم اقرأ إبداع العجيلي عنها ؟!.
ربما كنتُ سأحتفظ منها فقط.. بصورتها اليوميّة؛ بإغفاءتها.. ما بين البادية والنهر؛ وبشارعها الرئيسيّ الطويل.. الذي بناه وبنى مِثلَهُ في كلِّ المدن السورية.. المُحتلُّ الفرنسيّ!.
لهذا.. كانت للرقّة صورتان في داخلي؛ تبدوان مُتناقضتين.. لوهلةٍ؛ لكنّ إحداها.. لا تكتمل دون ثانيها؛ ولن يكتمل الثالوث سوى.. بصورتها منذ 2011.
الصورة الثالثة للرقّة.. تشكّلت في داخلي منذ انطلاق الثورة السورية؛ ومنذ انتقلت الرقّة من حضن الاستبداد إلى الحرية؛ ثمّ انسحب عنها ما سُمِّيَ بالمجاهدين.. ليتركوها فريسةً بين مخالب داعش؛ وتحت القصف الأسديّ؛ ثمّ.. تحت القصف الأمريكي الغربي؛ ومن بعدِهِ.. الروسيّ.
ولا أدري.. لماذا تتجاوَر صورة مدينتين في داخلي: إدلب و الرقة؛ كلما جرى الحديث عن المدن التي تمّ تهميشها منذ أول انقلاب عسكري في سوريا؛ وحتى عهد التوريث الأسدي.
أتذكّر هاهنا.. كيف استقبلت المدينتان: جمال عبد الناصر؛ وكيف طلبتا منه الاستقلال إدارياً عن محافظتي: دير الزور وحلب.
كيف زرتها أول مرة.. حين كان خالي يعمل في إنشاء سدّ الفرات.. ذهبنا يوم الجمعة بشكل خاطفٍ ثم عدنا إلى قرية الطبقة؛ ولم يتبق من تلك الزيارة سوى صورة غائمة عن سينما مررنا بها في الشارع الرئيسي؛ وكانت تعرض فيلم: الوسادة الخالية.
ثمَّ زرتها مع فرقة مسرحية من إدلب.. لنعرض فيها مسرحيةً لي: “ميم يبحث عن مدينة” عام 1977 أو 1978؛ وإذا لم تخُنِّي الذاكرة.. أخذونا إلى فندق “قصر الأندلس: أو.. ربما كان اسمه: “قصر الحمراء” ولم يكن قصراً على الإطلاق؛ كان مجرّد نسخةٍ رقّاويّة للخانات على طريق الحرير.
كنتُ وقتها أبحث عن المدينةِ / الحُلم؛ لهذا كتبتُ هذا النصّ المسرحي؛ ولم تكن إدلب ولا الرَقَّة.. تلك المدينة؛ ربما.. كانت سوريا ذاتها؛ التي طالما حلمنا بها؛ عَصِيَّةً على الطُغاة والغُزاة.. معاً؛ مُنفتحةً على الجميع؛ ومن غيرِ تعصّبٍ أو تطرّفٍ أو طائفيّة.
وحين تعرّفتُ إلى “عبد اللطيف خطَّاب” في جامعة حلب بعد عام؛ بدأت أتعرّف من خلال شخصه وشعره إلى ذاك المزيج من البداوة والمدنية؛ التي طالما انطوت عليه الرَقَّة منذ نشأتها؛ كما تعرَّفتُ إلى البدويّ الرَقّاويّ.. من طِوَالِ العَبَا؛ التائهِ دهوراً.. ما بين الرمال حتى نجدٍ والحجاز؛ وما بين التقاء نهر الفرات.. برافده: البليخ.
كنّا إذا سألنا عبد اللطيف عن شاعرٍ في الرقة.. قال ضاحكاً:
– مليح.. بس عشيرته صغيرة !.
ومازال هذا التصنيف غير الشعريّ.. سارياً؛ منذ حكومة الحسيني في عهد الجنرال ساراي؛ وليس انتهاءً بكلِّ جنرالات العسكر السوريين؛ وأيضاً.. في تشكيلات المُعارضة السورية!؛ وحتّى في تعامل داعش مع أهل المدينة؛ وفي تعامل أحفاد أوجلان.. أيضاً!.
حين كَثُرَ الحديثُ عن محاولة تشييع بعضِ أهلِ الرَقَّة مِن قِبَلِ الملالي الإيرانيين؛ كان أحد الأصدقاء الرقّاويّين يتندَّر ضاحكاً:
– مو ليعرفوا أنهم مسلمون سُنَّة.. بالأول؟!.
كنتُ متأكداً بشكلٍ خاص بأن حملة التشييع هذه.. لن تنجح؛ وبأنّ صمتَ الرقة عن المشاركة في الثورة السورية.. لن يطول؛ وبأنها ستدفع ثمن اختيارِ الأسد الصغير لصلاةِ العيد فيها.. ثمناً مضاعفاً من الدم والقصف والتهجير حين تتحرَّر.
ذُبِحَت الرقّة بصمت.. وأكثر من مرَّة؛ طوال تاريخها؛ وهي تُذبح كلّ يوم؛ كما يُذبَح ناشطوها فيها.. وخارجها: كما حصل في أورفه؛ وكما حصل في إمارة الجولانيّ الإدلبيّة؛ التي قِيلَ بأنها.. تحرَّرت!؛ لكنها بالضبط.. انتقلت من استبداد المافيا الأسدية إلى استبداد أمراء الحرب الطالبانيين.
ما بين مدينتين.. إدلب والرقة؛ سيُكتَبُ تاريخ جديدٍ للدم.. كما للحريّة؛ لم تعرِفهُ سوريا منذ أول أبجدياتها.
لكنه تفاؤلُ المُتشائِمِ من تشتّت قوانا السياسية والعسكرية والثقافية والإعلامية؛ وهو تشاؤمُ العقل ممّا نحن فيه؛ وتفاؤلُ الإرادة التي تستعصي دائماً ولا تنكسر؛ فالأحمقُ وحدَهُ.. يُراهِنُ على انكسار إرادةِ السوريين.
ولتشاؤُلِي هذا.. شيءٌ خاصٌ بي؛ مُرتبطٌ بالرَّقة.. ذاتِها؛ فذاتَ ليلةٍ مطلع عام 1990 كنّا مجموعة أصدقاء في بيتي بحلب؛ ثمّ في آخرها اقترحَ صديقٌ لنا؛ أن نذهب إلى الرَّقة الآن.. وحالاً؛ وقبل مطلع الفجر؛ لِنُفاجأ صديقاً رقّاوياً لم نلتقه منذ سنين؛ ولنجعله يخسر فطوراً لائقاُ.. بنا؛ قالت زوجتي الديريّة آنذاك:
– شكون.. إلى الرقة؟!.
وردَّ صديقٌ حمصيّ.. ضاحكاً:
– هذا يُشبه دعوةَ حمصيٍ إلى فطورٍ حموي قربَ أنينِ النواعير !.
حين وصلنا مشارِفَ الرَقَّة.. كانت زوجتي قد ألقت برأسها طوال الطريق على كتفي مُستغرقةً في نومٍ عميق؛ وحين استدارت بنا السيارة لتعبرَ الجسر؛ صاحت زوجتي.. نِصفَ نائمة.. نِصفَ صاحيةٍ:
– هذي ريحة الفرااااا..
“تقصِد رائحةَ نهر الفرات” واستفاقت تنظر إلى النهر؛ كما لم تره منذ طفولتها الأولى.
منذُ جملتها.. تلك؛ وحتى ولادة طفلناحين وَضَعتُهُ بين ذراعيها؛ نظرت إليه.. ثم سألتني:
– ماذا سنُسمّيه ؟!
قلتُ: – فرااا… فرات.
ولا يلِيقُ بالفراتِ.. إلّا الحريّة.
المصدر : نجم الدين سمان – ebd3.net