للتهجير طعمُ واحد

الرقة تذبح بصمت

يُقال: “لا يعرف الألم إلا من ذاق لوعته”، وهو الحال في تهجير أهل حلب، شعر بهم الحماصنة وأهل دير الزور والرقيين وعرب الشمال السوري وغيرهم من طردوا من مدائنهم إلى المجهول بغير عودة، حتى يغير الله أمراً.

 
غدت الباصات الخضراء رمزاً للتهجير الممنهج، ويطلق التهديد والوعيد بها لمن يرفض الطاعة والخنوع أو تسول له نفسه رفع الصوت وقول “لا” وحتى على من التزموا منازلهم وصمتوا، لكن هذه الباصات لم تكن خضراء، وإن حملت هذه الصفة.
 
مرت ثلاثة سنوات على أول عملية تهجير ممنهج قام بها تنظيم داعش، كان ضحيتها أهل مدينة الرقة، عاصمة التحرير، إذ عمد التنظيم بعد سيطرته على المدينة إلى طرد الجيش الحر منها، وكل من هتف للثورة من أبنائها وقال “لا” في وجه النظام السوري، فأفناهم تهجيراً او قتلاً وتغييباً.
 
ومرت اليوم سنتان أيضاً على تهجير من تبقى منهم في ريف الرقة الشمالي على يد الميليشيات الكردية في مدينة تل أبيض بعد سيطرتها وطرد داعش منها، وهنا القضية كانت اوسع من التي سبقتها وشملت من قال لا ومن صمت ومن كان عربياً أو تركمانياً أو حتى كردياً ليس منهم، لتكون خالصة للقادمين بمشاريع انفصالية، من خلف الحدود وقمم الجبال في جنوب شرق تركيا.
 
لم تكن الرقة وحدها ضحية التهجير وكان لريف حلب الشرقي نصيباً مثلها، إضافة لريف الحسكة الجنوبي والغربي، وغيرها من المناطق التي أُخذت من أهلها بالقوة من أعداء الأسد المفترضين كما يطرحون أنفسهم لرعاياهم، ومن يظنون بهم خيراً لمشاريعهم القومية والدينية.
 
بلغت الأرقام نحو “مليون” مهجر من هذه المناطق وحدها كما تحدثت الإحصائيات، ولم يكن للأسد نصيبٌ من تهجيرهم، فقد اكتفى بتهجير أضعافهم في مناطق آخرى من جنوب سوريا إلى شمالها، إما بالقصف أو بطرق قتل آخرى من حصار وتهديد بالإقتحام أو “الخروج” إلى حيث يشاؤون باستثناء خريطة دولته المستقبلية الممتدة من جنوب العاصمة دمشق مروراً بحمص وحماة وطرطوس واللاذقية حيث معقله ومركز خزانه البشري في ريفها الجبلي.
 
كانت أول المناطق التي هجرها نظام الأسد هي حمص القديمة أو أحياء حمص السنية تحديداً، التي ثارت عليه سلمياً ثم عسكرياً، إلى أنّ قوبلت بحملات عسكرية وحشية وحصار خانق أجبر أهلها وثوارها على الخروج عبر ممرات آمنة برعاية الأمم المتحدة نحو الريف الشمالي المحرر، ثم لحقت بحمص القديمة بلدتي مضايا والزبداني بريف دمشق بعد حصارهما لعامين من قبل حزب الله، وفصلهما عن العالم الخارجي وقطع كل شيء عنهم، إلى أنّ مات الأهالي جوعاً ومرضاً، حتى وصل بهم الحال لقبول صفقة التبادل بينهم وبين أهالي قريتي كفريا والفوعة الشيعيتان المحاصرتين بالاسم فقط من قبل الجيش الحر والكتائب الإسلامية، الحصار الشكلي هذا كان فقط للطرق البرية فقد كانت حوامات الأسد العسكرية تمد قاطني هاتين القريتين بكل شيء من غذاء ودواء وسلاح، إضافة لنقل الجرحى والمقاتلين واستبدالهم بآخرين.
 
مضايا والزبداني وتلاهما حي الوعر الحمصي الذي لايتصل جغرافياً بحمص القديمة وبقي صامداً إلى أنّ وصل به الحال لقبول ماقبله السابقون من أهالي المدن المُهجرة.
لم يتوقف مسلسل التهجير الأسدي هنا فقط، بل تابع حملته الوحشية ووجه جميع قواته إلى مثال الثورة الأبرز وأيقونتها داريا، والتي أذاقت النظام مرارة الصمود، واستعصت عليه بعد عشرات الحملات العسكرية الضخمة، ومقتل كافة قادتها طيلة أربعة أعومٍ من القصف بكل أنواع الأسلحة، على بقعة جغرافية لاتتجاوز الـ 7 كم ومئات من المقاتلين الشبان الذين عملوا فوق طاقتهم للدفاع عن ثورة الحرية والكرامة، وكما سابقهم بعد تضييق الخناق عليهم وارتفاع وتيرة القصف الى حد الجنون، قبلوا بشروط النظام لاخلائها والتوجه إلى ادلب لاستكمال المعركة التي لن تنتهي بتغير الجغرافيا.
 
كانت حلب عاصمة الثورة الأخيرة، ومركز ثقلها العسكري والمدني، تساقطت بتواطئ تركي أو ربما صفقة لا يدري أحدً ما ثمنها، لكنها سقطت بيد قوات الأسد شكلاً والميليشيات الشيعية والقوات الروسية فعلاً، هُجر أهلها البالغ عددهم اكثر من 100 الف مدني نحو الريف بعد صمود أسطوري تحت البراميل المتفجرة والصواريخ وضربات الطيران الروسي.
 
لايخفى على السوريين ومن يتابع أخبار البلاد، ماحدث وماذكر اعلاه، لكن يخفى على الجميع مرارة المهجر والعيش إلا لمن ذاقه وعاشه في هذه البلاد وغيرها.
 
يُشبه الكثير من السوريين حالهم بحال الفلسطينيين في نكبة 48 ونكسة 67 ويستحضرون كلاماً وقصائدا من ذاك الزمان ليعزون أنفسهم ويرثون حالهم هذا، حاملين بلادهم والذاكرة على ظهورهم، هائمون على وجهوههم في شوارع أوربا وتركيا والخليج وكل بقعة على هذه الأرض، التي لا تخلوا من أحدهم، وفي صدورهم كلام عابث لايدرون ثقله لكنه ينبع من الألم والأمل ” عائدون” كما وعد الفلسطيينيون من قبلهم، ولم تمحوا سنين الغربة هذه الكلمة من خواطرهم.