مسيحيو الرقة في ظل “خلافة داعش”

خاص – الرقة تذبح بصمت

“داعش يتهم جُلَّ المسلمين بأنهم كفرة ومرتدون، فماذا عساه أن يفعل بنا نحن المسيحيون”، بهذه الكلمات الساخرة والحزينة أوجز أحد المواطنين المسيحيين داخل الرقة مخاوفهم وشجونهم عقب سيطرة تنظيم داعش على مدينة الرقة.

الرقة التي كانت المحافظة السورية الأولى التي تم تحريرها بالكامل من قبضة نظام الأسد مطلع العام 2013، في لحظة فارقة وتحول مفصلي في تاريخ الثورة السورية تخللها شعور غامر بالفرحة العارمة لم يقتصر على المدينة وحدها بل عمَّ مختلف أنحاء سوريا، ولكن الفرحة لم تدم طويلا فنظام الأسد الذي خرج من باب الرقة ذليلاً مهزوماً عاد إليها من النافذة.

عاد النظام بزي مختلف وبصورة مختلفة، عاد مع لحى مرخاة وجلابيب قصيرة وعقول متحجرة تدعي امتلاكها النسخة الأصلية والوحيدة من “الإسلام الصحيح”، لتقع الرقة من جديد في قبضة مغتصبٍ ظالمٍ لا يقل سوءاً ووحشيةً عن نظام الأسد وعصاباته التي عاثت في البلاد فساداً منذ عقود.

معاناة المسيحيين بدأت مع سيطرة التنظيم على الرقة

بدأ التنظيم المتطرف بفرض أحكامه وقوانينه التي تشمل كافة مناحي الحياة وتمس بشكل مباشر بحياة المدنيين وشؤونهم اليومية، كما شرع بتنفيذ عقوباتٍ صارمةٍ بحق من يتجرأ على مخالفة هذه القوانين بالقول أو بالعمل. وقد شملت هذه الأحكام جميع مكونات المجتمع دون تمييز أو مراعاة للخصوصية التي كانت تعيش في ظلها بعض الطوائف والاثنيات داخل المدينة، وهنا بدأت معاناة المسيحين في الرقة.

فالتنظيم ينظر إلى المسيحيين على أنهم كفرة موالون للغرب أكثر من ولائهم لوطنهم الأم الذي يعيشون فيه، وعلى هذا الأساس باشر في فرض قيود وشروط إضافية على هذه الطائفة ليساهم في طمس هويتها وتاريخها المديد والمتأصل داخل المجتمع السوري، وليجبر من تبقى من أبناءها وكهولها على مغادرة المدينة كرهاً لا طوعاً.

أصدر التنظيم سريعاً سلسلة من الاحكام على السكان المسيحيين في مدينة الرقة، وذلك في إطار ما أسمي بـِ “عقد الذمة في الشام بين الدولة الإسلامية ونصارى ولاية الرقة”، تضمن العقد المنشور من قبل التنظيم بتاريخ السادس والعشرين من شهر شباط من العام 2014 مجموعة من الأحكام والأوامر يجب على المسيحيين الالتزام بها تحت طائلة العقوبات المغلظة بحق من يخالفها، وجاءت هذه الوثيقة في شكل سبعة بنودٍ على الشكل التالي:

1. يلتزم النصارى بدفع جزية عن كل ذكرٍ منهم، مقدارها أربعة دنانير من الذهب على أهل الغنى، ونصف ذلك على متوسطي الحال، ونصفها على الفقراء.
2. أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب منها.
3. أن لا يظهروا صليباً ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طرق المسلمين او أسواقهم، ولا يستعملوا مكبرات الصوت عند أداء صلواتهم وكذلك سائر عبادهم.
4. أن لا يُسمِعوا المسلمين تلاوة كتبهم وأصوات نواقيسهم، ويضربونها داخل كنائسهم.
5. أن لا يقوموا بأي أعمال عدوانية تجاه الدولة الاسلامية.
6. أن لا يمنعوا أحداً من النصارى من اعتناق الاسلام اذا هو أراد ذلك.
7. أن لا يتاجروا ببيع الخنازير أو الخمور مع المسلمين أو في اسواقهم، ولا يشربوها علانيةً.

وقال التنظيم: “إنه سيضمن سلامة المسيحيين مقابل دفع الجزية، والتزامهم بالأحكام المترتبة على عقد الذمة”، مشيراً إلى أن فرض الجزية جاء بناءً على اختيار المسيحيين بعد اجتماع مندوبين عنهم مع ممثلي التنظيم في الرقة، وذلك بعد أن تم تخييرهم بين أن يعتنقوا الإسلام، أو يدفعوا الجزية، أو يعدوا محاربين رافضين لحكم الشرع، وكان الذي اختاروه أن يدفعوا الجزية.

وبالرغم من أنه قد تم التوقف عن العمل بالجزية منذ قرون، إلا أنها عادت إلى الظهور على يد التنظيم، في خطوة اعتبرت تعسفاً وتجاوزاً من قبله في تطبيق النصوص الإسلامية في نظر الكثير من العلماء المسلمين وحتى بعض منظري التيار السلفي الجهادي الذين يعتد التنظيم بآرائهم وفتاواهم.

فالجزية في الشريعة الإسلامية هي مبلغ من المال يتم دفعه من قبل القادرين على القتال من غير المسلمين “أهل الذمة” مقابل حمايتهم، ويعفى منها الكهول والنساء والأطفال والعجزة والمعاقون والذين يقاتلون في صفوف المسلمين.

فهي ليست مجرد ضريبةٍ ماليةٍ تُحصَّل كبديل عن القتل أو اعتناق الإسلام، بل هي أشبه بعقد اجتماعي بين هؤلاء المواطنين والدولة الإسلامية في ذلك الوقت، حيث يترتب على عاتق كل من طرفي هذا العقد مجموعة من الحقوق والواجبات ومن أهمها توفير الحماية والحرية الدينية، وهذا ما لم يلتزم به التنظيم بشكل واضح في العقد المذكور، كما أنه لم يلتزم من جهة أخرى بمضامين وبنود هذا العقد على أرض الواقع.

سياسات داعش تهدف إلى طرد المسيحيين من الرقة

بناءً على الوثيقة المذكورة، فقد أنذر التنظيم من تبقى من المسيحيين والأرمن في مدينة الرقة بدفع الجزية أو مغادرتها، وقد أكد مواطن مسيحي لا يزال يقيم داخل مدينة الرقة، طلب عدم ذكر اسمه، أن “التنظيم فرض الجزية على المسيحيين في المدينة، بدءاً بمبلغ 25 ألف ليرة سورية عن العاطل عن العمل، و50 ألفاً للعامل، ومئة ألف لأصحاب الأملاك والمحال التجارية، وفي حال تخلفت إحدى العائلات عن الدفع سيتم طردها خارج المدينة والاستيلاء على ممتلكاتها”.

وأضاف أن “هذه الجزية تعتبر عبئا ثقيلا على الكثير من العائلات”، منوهاً إلى أنّ “الكثير من العوائل المسيحية غادرت سورية، واضطرّت إلى التنازل عن ملكياتها، خشيةً من أطماع التنظيم وسعيه للاستيلاء عليها”.

كما قال أحد أهالي مدينة الرقة وعرف عن نفسه تحت اسم جميل، إن “عناصر تابعين للتنظيم أبلغوا العائلات المسيحية والأرمنية الموجودة في الرقة بوجوب دفع الجزية للتنظيم أو الخروج منها”.

وأكد جميل أن المسيحيين بدءوا يشعرون بالقلق منذ أيلول/سبتمبر من العام 2013، حين قام عدد من عناصر التنظيم بالدخول إلى كنيسة البشارة وكنيسة الشهداء في مدينة الرقة، وكسروا الصلبان، وجمعوا كل ما فيهما من صور وصلبان وقاموا بإحراقها، كما رفعوا راية التنظيم بدلاً من الصليب.

مسيحيو الرقة بين المطرقة والسندان

يعيش المسيحون اليوم في الرقة في جو رهيب حالهم كحال باقي مكونات المجتمع في المدينة، فالتنظيم يعربد بأحكامه وممارساته الوحشية على الأرض، والنظام وحليفه الروسي يقصفان المدينة ليل نهار بحمم طائراتهما التي لا تميز بين مدني و”داعشي”، وبين هذا وذاك يعيش المدنيون في ظل أوضاع اقتصادية ومعيشية وخدمية مزرية.

أما المسيحيون وهم بضع عائلات بقيت داخل الرقة، فيضاف إلى الوضع السابق معاناتهم من ضرورة ارتداء الملابس والظهور بالشكل الذي يفرضه التنظيم على نظرائهم المسلمين، وهو أمر لم يعتادوا عليه في السابق. فضلاً عن الخوف المضاعف الذي ينتابهم لدى المرور على حواجز التنظيم ونقاطه الأمنية، لا لشيء محدد أو ذنب اقترفوه بل لمجرد انتماءهم إلى دين لا يقر به التنظيم ولا يرضى عنه جملة وتفصيلاً.

وعلى صعيد آخر فقد توقف المسيحيون عن إظهار احتفالهم بالأعياد والمناسبات الخاصة بهم، كما توقف القائمون على كنائسهم عن قرع أجراسها، واختفت صلبانهم ورموزهم ومعالمهم بشكل كامل داخل المدينة، بعد أن قام التنظيم بمصادرة معظم المباني والأوقاف المسيحية ومن ضمنها نادي الأرمن في المدينة، كما قام من جهة أخرى بمصادرة أملاك المسيحيين الذين غادروا المدينة في وقت سابق بسبب مضايقاته وممارساته بحقهم.

كنائس الرقة حزينة

الكنائس التي كانت تزين المدينة بتصاميمها المعمارية المميزة، وصلبانها التي كانت تبعث رسائل المحبة والتعايش بين أبناء الوطن الواحد، اتشحت اليوم بالسواد الذي يرمز إلى الظلم والحيف الواقع بها، والظلام الذي يعشعش في عقول وقلوب مغتصبيها، بعد أن تحولت إلى مقرات ومراكز أمنية وعسكرية تابعة للتنظيم.

فالمحافظة كانت تضم أربعة كنائس، اثنتان في المدينة هما سيدة البشارة والشهداء، وكنيسة القديسين الشهيدين سرجيوس وباخوس في مدينة الطبقة، وكنيسةٌ في مدينة تلّ أبيض.

ويذكر أن عدد العائلات المسيحية في الرقة كان يزيد عن /1500/ عائلة قبل سيطرة التنظيم على المدينة، نصفهم من الروم الأرثوذوكس والنصف الآخر من سائر الطوائف المسيحية الأخرى، إلا أن عدد هذه العائلات لا يتجاوز اليوم 25 عائلة فقط، وذلك لعدم قدرتهم على ترك المدينة، ولأنهم الأكثر فقراً على الإطلاق.

التعليقات مقفلة.