حين أشرقت شمس الحرية

منّ الله علي بحرية مدينتي ولو إلى حين (أ.ف.ب)
منّ الله علي بحرية مدينتي ولو إلى حين (أ.ف.ب)


مع بزوغ فجر يوم السبت 2 مارس/آذار 2013 كانت مدينتي (الرقة) على موعد مع حدث تاريخي سيبقى خالداً خلود فراتها الأشم. والدتي خمسينية العمر، كعادتها تستيقظ فجر كلّ يومٍ لأداء الصلاة، ولكن لم تكن تعلم أن فجر اليوم ليس كما سبقه، ففجر هذا اليوم سيليه بزوغ فجر الحرية لمدينة جثم المستبد على صدرها وصدر أبنائها ما يزيد على أربعين عاماً.

حارتي الشعبية، خط الدفاع الأول عن المدينة من جهتها الغربية الشمالية، والتي تتركز فيها كتيبة الهجانة التابعة للنظام، كان قدرها أن تنال شرف بداية إعلان تحرير المدينة، كما أن قدر والدتي أن تنال نصيبها رصاصة من الرصاصات الأولى التي انهمرت بغزارة معلنةً بدء معركة التحرير.

لقد استيقظتُ من نومي ولكن لا أعلم من الذي أيقظني هل هو صوت الرصاص أم صوت والدتي المستغيثة؟ أسرعت نحوها وهي المصابة بداء السكري فوجدتها تنزف جرّاء رصاصة قناص أصابتها وأحسست بدنو أجلها في تلك اللحظات.

إلى اليوم لم أتمكن من أن أصف مشاعري في تلك اللحظة، فمشاعري خليط بين الفرح للحظة التحرير التي لطالما حلمت بها، وبين مشاعر الخوف من موت رأيته في عين والدتي، التي رفضت رفضاً شديداً أن أقوم مع أخي في مغامرة نقلها إلى المشفى، فصوت الرصاص والاشتباكات في وتيرة متزايدة، وبعد ثلاث ساعات من بداية المعركة توقفت الاشتباكات لمدة ساعة واحدة من جهة “المحرَّرين” كفرصة للأهالي لإخلاء المنازل حرصاً على حياتهم، فخرج الجميع ولم يبقَ إلا بعض الشباب المتحمس، علّه يتمكن من تقديم أي نوع من المساعدة للمحررين، وعادت الاشتباكات من جديد، وبدأنا نرى بأمِّ أعيينا ارتقاء الشهداء، وفي نهاية اليوم التالي أصبحت المعركة أقرب إلى الحسم لصالح المحررين، فأجزاء كبيرة من الكتيبة أصبحت تحت سيطرتهم، أما في اليوم الثالث 6 مارس/آذار 2013 أخذت معركة التحرير اتجاهاً آخر وأكثر ما أذكره في ذلك اليوم أنني في الساعة الثانية عشرة والربع بعد الظهر أقف أمام أحد المشافي في الرقة مع أحد الأطباء، بانتظار أن يجهزوا لي قائمة أدوية لأقوم بإدخالها إلى المشفى الميداني في حارتي، وفجأة مر من أمامنا عدد كبير من السيارات تحمل عددا كبيرا ممن يرتدون اللباس المدني، ويقومون بإطلاق الرصاص في الهواء فقلت للطبيب الذي معي متى يكتب الله لنا الخلاص من “عناصر الدفاع الوطني” التابعة لجيش النظام. وما هي إلا لحظات قليلة حتى رأينا طفلا صغيرا لا يتجاوز عمره العشر سنوات يركب دراجته الصغيرة؛ وهو يحمل علم الثورة ويسير خلف موكب السيارات الذي مر من هنا منذ لحظات. (يا الله ما الذي يحدث!!)، أصبحنا نسأل أنفسنا، وعندها فقط أدركنا أن من مر من أمامنا منذ لحظات ليسوا من الدفاع الوطني بل هم “المحرَّرون”، وبدأت الحواجز المنتشرة في أجزاء المدينة تقع تحت السيطرة واحداً تلو الآخر دون مقاومة كبيرة، أما أنا فذهبت لأوصل الأمانة التي بحوزتي علّي أعود سريعا حتى لا تفوتني هذه اللحظات التاريخية، وأكثر ما كنت أتمناه أن أرى ذلك الصنم الواقف في ساحة المحافظة (تمثال حافظ الأسد) يتهاوى ويسقط بأيدي أبناء مدينتي، وعند وصولي إلى حارتي كانت المعركة قد شارفت على الانتهاء، فالمقاتلون كانوا يقومون بعملية التمشيط النهائية للكتيبة، وعدت بعد ساعتين، ولكن كان ذلك الصنم قد سقط وارتقى معه عدد من الشهداء من أخوتي وأحبتي الذين ساهموا في إسقاطه، حيث إنه بعد دقائق من إسقاط التمثال قام النظام بقصف الساحة بقذائفه المجنونة.

نعم أشرقت شمس الحرية في مدينتي.. نعم والدتي فقدت وعيها بعد ساعتين من النزيف المستمر، ولم تعد تملك الإرادة على منعنا من إسعافها الى المشفى والخروج بها تحت وابل من الرصاص المنهمر، ولقد منّ الله علي بشفاء والدتي وحرية مدينتي ولو إلى حين.

عمار الحمد – العربي الجديد