لن تبقى ولن تتمدّد

منذ وضع أبو بكر البغدادي نصب عينيه إحياء «الخلافة»، كانت السيطرة على الأرض أساسية في مشروعه التدميري. بالاستحواذ على الأرض، كان يمكنه أن يجمع حشود الإرهابيين من مختلف الأصقاع، للقيام بمهمات الإشراف على إرهاب السكان وتعذيب السجناء وذبح الرهائن وتدمير المساجد والمتاحف والآثار. كل ذلك كان بحاجة إلى رقعة جغرافية يسيطر عليها هؤلاء الإرهابيون، ويرفعون فوقها علمهم الملوّن بالأسود، بلون وجوههم وعقولهم، ويزعمون تنفيذ قوانين «دولتهم»، وفرض «عملتهم» التي سكّوا نقودها، وتحصيل الجزية من «مواطنيها»، وترتيب امور الولاية والقضاء والاحوال الشخصية وأصول الملبس والمأكل، وسائر حاجات الناس اليومية. باختصار، الأرض هي الترجمة الحسية لما أراده البغدادي واتباعه من رفع شعارهم الشهير «باقية وتتمدد»، للإيحاء بأن هذا مشروع غير قابل للزوال. وكان الوهم الذي سيطر على عقول هؤلاء، إذا صحّ أن في رؤوسهم شيء من هذا القبيل، أن السكان الذين ارتكب المجرمون في حقهم أبشع انواع الرعب، والدول التي أذاقوا رعاياها أسوأ ما عرفته أساليب التعذيب، أن كل هؤلاء سيخافون من دكّ أسوار تلك الدولة، أو الانقلاب عليها، وأن قدرتها على التدمير ستكون كافية لحمايتها من الزوال.

ما شهدناه في الموصل، وما يقترب حصوله في الرقة، يؤكد أن «دولة» البغدادي لن تبقى ولن تتمدد. وإذا كان البغدادي قد استغل ظروف الموصل وتواطؤ الحكم في بغداد قبل ثلاث سنوات، مثلما استغل انهيار الكيان السياسي والجغرافي في سورية وتواطؤ نظام بشار الأسد، وتزويده «خلافة» البغدادي بمن أطلق سراحهم من السجناء، فإن صلابة القرار السياسي في العراق، الذي شاركت فيه معظم المكونات السياسية، مضافاً إلى الضربات المحكمة للتحالف الدولي في سورية، والدور المهم الذي تلعبه هناك «قوات سورية الديموقراطية»، نجحت معاً في تقليص الرقعة التي يستطيع البغدادي، سواء كان حياً أو وهماً، أن يستمر في ارتكاب جرائمه فوقها.

لم يخسر البغدادي الأرض فقط، بل خسر أيضاً الأموال التي كان يستطيع بها شراء الولاءات ودفع أجور عناصر الاجرام الذين كان يستقطبهم. وفي الأرقام إن مداخيل التنظيم هبطت من 80 مليون دولار شهرياً في الربع الثاني من عام 2015 إلى ما لا يزيد عن 15 مليوناً في شهر أيار (مايو) الماضي، وهو ما يدفع كثيرين من الذين انضموا إلى التنظيم من مختلف الدول إلى سلوك طريق العودة عبر الحدود التي قدموا منها.

«داعش» ارتكب كذلك الجريمة الأكبر باستخدامه المزور لكلمة «الخلافة»، كغطاء لممارساته البعيدة من كل ما يتصل بالإنسانية، ممارسات لا يربطها شيء بالقيم التي عرفتها امبراطوريات الخلافة الإسلامية التي قرأنا عنها، والتي عاشت في ظلها شعوب وقبائل من مختلف الجنسيات والطوائف والأعراق. نجح البغدادي بشعاراته الزائفة وحملاته الإعلامية في استقطاب مغفّلين ومحتاجين وأصحاب عقول مريضة، قدم بعضهم من دول غربية كانت توفر لهم ولعائلاتهم أسباب الأمان، لكنهم تخلّوا عن ذلك بحثاً عن سراب «الخلافة». غير أن علاقة «داعش» بالسكان المحليين في المناطق التي استولى عليها بقيت علاقات استقواء وإرهاب وتخويف دائم، خصوصاً مع إرغامهم على البقاء في البيوت المعرضة للقصف وللتدمير، في كل مناطق سيطرته، وتحولهم نتيجة ذلك إلى دروع بشرية، لمعرفته أن الطائرات والدبابات والمدافع المهاجمة ربما تكون أكثر رحمة منه بهؤلاء السكان الذين يدّعي ممارسة الحكم و»الخلافة» لإنقاذهم. يكفي النظر إلى وجوه هؤلاء الرهائن عندما يتاح لهم الهرب من جحيم «داعش»، وسماع تعليقاتهم ووصفهم ما عانوه في السنوات الثلاث الماضية، لإدراك حجم الجريمة التي ارتكبها من أتاحوا لهذا التنظيم المجرم السيطرة على المساحات التي سيطر عليها في بلدين من أعظم بلدان العرب.

يُكتب الكثير هذه الأيام عن أن خسارة «داعش» للأرض لن تعني نهاية هذه الافكار المجنونة والمتخلفة، ولا نهاية هذا الإجرام المتنقل في ثوب «الذئاب المنفردة» التي تفلت بين وقت وآخر في أحد شوارع أو أرصفة المدن الغربية. وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً أنه لا يجوز التقليل من أهمية خسارة الأرض بالنسبة إلى «داعش»، وهو السبب الذي يدفع عناصره للاستماتة في الدفاع عما بقي منها، على رغم الفارق الكبير في الإمكانات العسكرية بين ما بقي من قوات التنظيم وما تملكه القوات المهاجمة.

المصدر : شبكة شام