إذا الرقة سئلت (5)

82222

خاص – الرقة تذبح بصمت

لا تكاد الرقة تشبه سوريا بنظامها الأسدي ومعارضيها، إلا بكونها تلعب دوماً دور نسخة “النيكاتيف” في أيِّ مشهدٍ وصورة مُظَهَّرة على شكل “بوسيتف” لسوريا. إنها لا تنتمي واقعياً وبنيوياً، لا إلى (سوريا المفيدة) ولا إلى (سوريا الضارة)، بل لعلها على الوجه الأصدق تقع في وسط بينهما، وسطٍ يشبه الثقب الأسود الذي يمتص فضالة المشاهد المعايشة الإجتماعية والسياسية في سوريا التاريخية المعاصرة، فيخفيها ويختفي معها، وهي ـبهذه الفرادة التي تميزُها عن باقي المحافظات تملك مايؤهلها لأن تنتمي وحيدةً دون غيرها من المدن والمحافظات السورية الأخرى إلى (سوريا الوظيفية).

إنها تلك المدينة التي تعايشت مع إهمالها وميزة عدم الإكتراث بها ـحتى في حدود استذكارها في النشرات الإخبارية الجوية التي تصف الطقسَ العام في سورياـ حتى بات ذلك الإنكار المقصود وضعاً عادياً ومألوفاً بالنسبة لمن يقطنها ولمن يسمع بها من بعيد على حد سواء.

وهناك حادثتان من حيث الأهمية، شكلّتا تحولاً نوعياً على المستوى الإستراتيجي في مستوى الحدث العام وكيفية صناعته وإدارته بين قوى كثيرة متصارعة، بعضها مشتهر ويسمع الناس بتفاصيل أخباره اليومية، وبعضها مستتر لم يكن الجمهور يراه ولا يدرك قدرته على صنع الحدث العام، ولا تأثيره المباشر والمستقبلي على ما آلت إليه الأمور لاحقاً، في الرقة تحديداً.

الحادثة الأولى هي استشهاد الشاب “علي البابنسي ” في إحدى المظاهرات، والحادثة الثانية كانت تحرير مدينة تل أبيض من قبضة نظام الأسد بتاريخ الثامن عشر من شهر أيلول/سبتمبر من عام 2012.

ربما حفر هذان الحدثان المفصليان والمهمان في تاريخ الثورة وفي يوميات الرقة وتطور الأحداث فيها التقدمة الأساسية التي التفَّت حولها جميع الأحداث اللاحقة، بما فيها تحريرالرقة المدينة فيما بعد، وما ترتب على هذا التحرير وانتزاع المحافظة بكاملها تقريباً من قبضة النظام، من إعادة تجميع جديدة لقوى جديدة وخلطها في مراحل متفاوتة من حياة الرقة.

d985d8b8d8a7d987d8b1d8a9-d988d8aad8b4d98ad98ad8b9-d8a7d984d8b4d987d98ad8af-d8a7d984d8a8d8b7d984-d8b9d984d98a-d8a7d984d8a8d8a7d8a8d986

استشهاد علي البابنسي:

علي البابنسي شاب من مواليد عام 1996في الرقة، كان يدرس في مدرسة (ابن خلدون التجارية) ولديه خمسة أشقاء جميعهم اعتقلوا لفترات خلال أشهر الثورة الأولى، ولعدة مرات.

عندما بدأت الثورة كان البابنسي من أول المعارضين للنظام حيث اشترك في معظم التظاهرات السلمية، وكان من الشباب المتحمس للخروج والمطالبة باسقاط النظام. أول مظاهرة شارك فيها انطلقت من شارع الوادي واتجهت باتجاه شارع تل أبيض، بعدها اشترك مع مجموعة من الشباب في تشكيل تنسيقية طلاب الرقة التي ضم أكثرُها طلاباً من مدرسة ابن خلدون ومدرسة التجارة ومدرسة الرشيد (وجميعها مدارس المرحلة الثانوية)، وكان لهذه التنسيقية دور في زيادة النشاط الثوري في المدينة.

وفي يوم الخميس الخامس عشر من شهر آذار لعام 2012، خرجت تظاهرة في شارع الكنيسة قرب حديقة الرشيد، فهاجمها عناصر الأمن العسكري المسلحين بأسلحة نارية رشاشة بوحشية وشراسة، وأطلقوا الرصاص الحي على المتظاهرين فأصيب البابنسي في صدره وبسبب عدم السماح له بدخول المشفى وإسعافه بالسرعة المطلوبة فاضت روحه، فكان الشهيد الأول الذي تسجله المحافظة في التظاهرات، الأمر الذي أحدث هزة عميقة في وجدان كل سكان المدينة والريف على حدٍ سواء، إذ فتح استشهاد الشاب باباً في تاريخ المدينة ومراحل الصراع مع هذه السلطة الاستبدادية الغاشمة لم يعد بالإمكان إغلاقه أبداً، وأحدث جرحاً لا شفاء له في تاريخ الصراع مع النظام ومقبلات الأيام التي تلته.

كان الصباح التالي الذي أعقب استشهاد البابنسي حاسماً ومفصلياً ومشحوناً بالمفاجآت.. لقد تطَيَّف المشهد في الأخيلة والأذهان حتى اختلطت فيه حدود الحلم والخيال بقسوة المشهد الواقعي، كانت موجة من الحزن والغضب الشامل قد اجتاحت المدينة، وخرج الناس فرادى وجماعات في تصميم غير مألوف ويصعب تفسيره صباح اليوم التالي لاستشهاده، وكل فرد من أبناء الرقة قد حسب بأنه جاء وحده يشيع شاباً يافعاً في ريعان العمر قتل بدم بارد، ولم يكن في مخيلة أحد أن يتعدى التشييع الحدود لأية جنازة عادية.. وقد زكى هذا التصور أن الشهيد كان من عائلة صغيرة جداً في الرقة، لاعشيرة له ولا جموع معزين من أقرباء كما يمكن أن توحي به وقائع الأمور مبدئياً.

كبرت الكتلة التي تجمعت في الصباح لتشييع البابنسي وتكاثرت، وكلما مضت دقائق ولحظات كانت تتضاعف، وجاءت البلاغات من أهالي الريف البعيد والقريب تطلب التريث والتمهل في انطلاق الجنازة نحو المقبرة ريثما يتسنى لهم الوصول من قراهم البعيدة والقريبة، وما إن سارت الجنازة حتى أذهل منظرها كل من شارك وحضر، فتحولت إلى تظاهرة نوعية لا على مستوى سوريا وثورتها فحسب، بل الأصح على مستوى التطورالتاريخي العام في العصر الحديث في حركة احتجاج غير مألوفة لمدينة صغيرة لم تتشرب روح الاحتجاج والتمرد على السلطة طيلة تاريخها، فقد بلغ عدد المشاركين الذين ساروا في موكب التشييع قرابة النصف مليون مشيع (على اختلافات في التقديرات العامة لعدد المشاركين)، وفي محافظة لم يتعدَ عديد سكانها يوماً المليون ومئتي ألف نسمة محتسبين في ذلك النساء والأطفال الرُضع والشيوخ وغير المقيمين والمهاجرين خارجها.

وبهذا المعيار يمكن وصف المشهد بأنه كان استثنائياً وإجماعاً منقطع النظير، وتصويتاً شعبياً احتجاجياً لصالح الثورة ضد النظام، جمع كل سكان المحافظة أو معظمهم في صعيد واحد ومشهد واحد، وهو أمر لم تعرفه سوريا في تاريخها (بما في ذلك مختلف مراحل الثورة، وفي مختلف المحافظات) لا من قبل ولا من بعد.

كانت خاتمة المشهد أبلغ ذروة في تطور الحدث الدراماتيكي غير المألوف والمتوقع، فبعد قفول موكب المشيعين وعودتهم من المقبرة، بلغ الغضب العارم لدى البعض منتهاه، وقرروا ـ متواصلين بالهتافات التي لم تنقطع لا في طريق المقبرة ولا في طريق العودة منهاـ أن يزحفوا نحو تمثال الديكتاتور حافظ الأسد المنتصب وسط أكبر ساحات المدينة ومركزها في جوار مبنى المحافظة، وهناك كانت مجاميع من قوى الأمن والجيش قد حسبت حسابها للنية التي بَيَّتَها المشيعون، وقررت المواجهة الدموية بأعلى أشكالها وأكثرها إجراماً، انهمر الرصاص على المقتربين من تمثال الطاغية، وحدثت مجزرة نوعية في تفاصيلها سقط على إثرها أربعة عشر شهيداً من طليعة شهداء المدينة وخيرة شبابها الثائرين المتظاهرين؛ بتلك الرعونة وبذلك الإجرام غير المسبوق فتحت السلطة أمام الرقة وأهلها جميعاً باباً دموياً لاعودة فيه ولارتق لصدعه، فقد تحطم الزجاج، زجاج السكونية السالبة والمترددة التي حكمت المدينة وأهلها لعقود، وانتثرت شظاياه في كل أرجاء المحافظة.

Founder of Raqqa is being slaughtered silently, journalist featured in film "City of Ghosts".