لا بُدَّ لكلّ بداية حربٍ أن تُفضي نتائجها ليس إلى حجارةٍ مُدمّرة وحسب، بل، إلى الكثير من الآثار المُجتمعيّة المُدمّرة، وتُعدّ ظاهرة عمالة الأطفال إحدى هذه الظواهر، حيث يعزف الكثير من أطفال مدينة الرقّة عن مقاعد الدراسة، والتوجّه إلى سوق العمل بهدف تأمين قوت يومهم، وحاجّيّاتهم الأساسيّة، ومساندة عوائلهم الفقيرة.
هذا وبحسب منظّمات وتقارير أُمميّة فإنّ الآلاف من أطفال مدينة الرقّة مبعدون عن العمليّة التعليميّة، وذلك بسبب فعل ظروف الحرب التي شنّتها قوّات التحالف الدوليّ وذراعها العسكري قوات سوريا الديمقراطية “قسد” ضد تنظيم “داعش”عامّ 2017 في محافظة الرقة، التي خلفت دماراً كبيراً في المدينة، إضافة لتأثيره على حياة الناس الاقتصادية، ما أدى إلى اضطرار الكثير من الأطفال للعمل في مهنٍ صعبة لا تتناسب وأعمارهم، وحتّى حجم أجسادهم الصغيرة.
هذا ويقدر عدد الأطفال العاملين في مجال اصلاح السيارات في المدينة الصناعية في الرقة بأكثر من 1600 طفل، فيما يعمل حوالي 900 آخرين في سوق الحديد، بالإضافة إلى 600 كحمّالين لأكياس وصناديق الخضار في سوق الهال.
وبحسب ناشطين محليين، يذهب فقط حوالي 60% من أطفال الرقة إلى المدارس، فيما بلغت نسبة المتسرّبين في كافة المراحل قرابة ٣٨٪.
مهنٌ خطرة:
يمتهن الكثير من الأطفال من أبناء الرقّة أو حتّى أطفال النازحين العديد من المهن الخطرة، ولعلّ أبرزها هي ظاهرة استخراج الحديد من الأبنيّة المُدمّرة بفعل قصف التحالف الدوليّ، إذ تبرز خطورة هذه المهنة كون أنّ الكثير من الأبنية تحوي تحت أنقاضها العديد من القنابل التي لم تنفجر، أو وجود ألغام كان قد زرعها تنظيم داعش قبل انسحابه من المدينة لصالح مليشيا قسد.
فيما تكمن خطورة المهن الأخرى كاستخراج المُخلّفات البلاستيكيّة من حاويَات القمامة، والمكبّات، في خطورة تعرّض صحّة الأطفال إلى الأمراض والأوبئة المنتشرة بكثرة في المدينة نتيجة تدنّي الخدمات من قِبِل سُلطة الأمر الواقع.
أسباب لعمالة الأطفال:
كما تطرّقنا في بداية مقالنا أنّ تحصيل قوت اليوم هو السبب الرئيس الذي يدفع بالكثير من الأطفال للتوجّه نحو سوق العمل، فالفقر، وصعوبة الحياة، وشظفها بالإضافة إلى غياب ربّ الأُسرة، أو حتّى عدم قدرته على تأمين متطلّبات عائلته بمفرده.
يقول عمّار 15 عامًا “تركتُ تعليمي منذ بداية القصف على الرقّة ودخول ميليشيا سوريا الديمقراطيّة الرقّة عام 2017، التحقت بالعمل مع والدي في مجال بيع الألبسة المستعملة، فأنا منذ أربع سنوات أعمل في هذه المهنة، وقد دفعني ارتفاع مصاريف ومتطلّبات المنزل والحياة إلى ترك تعليمي والعمل مع اثنين من أخوتي”.
ويواجه الأطفال بالإضافة إلى التعب الجسديّ أخطار نفسيّة، وسوء في المعاملة من قِبَل أرباب العمل، عدا أنّهم يجدون أنفسهم في تحمّل مسؤوليّة تفوق تفكيرهم، وقدرة أجسادهم، وأنّهم محاطين بنمط حياة يفوق أعمارهم، وهو ما يمنعهم من العيش كأطفال طبيعيين.
كورونا سببٌ آخر:
وأرجعت كثير من المنظمات العاملة في الشأن الإنساني، ومنها منظمة أنقذوا الأطفال save the children أنّ تفشي فيروس كورونا منع اثنين من بين ثلاثة أطفال من عدم مواصلة تعليمهم والذهاب للمدرسة.
وتابعت المنظمة في استطلاع لها أنّ 2.45 مليون طفل في جميع أنحاء سوريا أصبحوا خارج إطار التعليم.
ولا يختلف حال أطفال المخيمات في الشمال الشرقي السوري، حيث توقف 5500 طفل عن الذهاب للمدرسة، حسب المنظمة.
وأشارت المنظمة في تقريرها بأنّ الفقر هو العامل الأول الذي يجعل من الأطفال يقطعون تعليمهم من أجل تحصيل رزقهم، حيث أصبح عمل الأطفال مصدر دخل إضافي، وأساسي من أجل استمرار العيش.
وفيما لجأت دول كثيرة إلى التعليم عن بُعد وسيلة لاستمرار عملية التعليم في ظل تفشي جائحة كورونا، إلّا أنّ هذا الحل انعدم في سوريا نتيجة للأوضاع التي تشهدها البلاد، وعدم توفّر الخدمات اللازمة لذلك، وبالتالي فإنّ عدم توفّر وسيلة تعليميّة دفع الأهالي إلى دفع أطفالهم نحو سوق العمل.
انعكاسات سلبيّة لعمالة الأطفال على المجتمع:
وكنتيجة طبيعية لظاهرة تسرّب الأطفال من المدارس، واتجاههم نحو العمل سينشأ جيل يغلب عليه طابع الجهل والأُمّيّة، وسيصبح من الصعب عليه تلقّي أو فهم أي عملية علمية بسيطة، وهو ما سينعكس عليه مجتمعيًّا من خلال التأثير على نفسيته، وسينتج عنه سلوك غير سوي في حال تركه المدرسة في سنّ مبكّرة والاتجاه نحو سوق العمل، خاصّة في مناطق شمال شرقي سوريا، فمن الممكن، ومع انتشار الكثير من الفصائل والتنظيمات المتطرّفة سيجد الطفل نفسه في بيئة خصبة ثؤثّر على تفكيره، وبالتالي يتولَّد جيل جديد يكون إمّا مفعمًا بالتفكير المتطرّف والمتحيّز لأحد الفصائل أو التنظيمات المسيطرة، أو جيلًا منحرفًا ومنجرفًا باتجاه الأفعال غير الأخلاقيّة كإدمان المخدرات والسرقة، وإلى ما هنالك.
تقارير أُمميّة بانتظار حلول:
وفي تقرير لمنظمة العمل الدوليّة فإنّ الحروب قد زادت من ظاهرة عمالة الأطفال، خاصّة على مدار العقد الماضي، تزامنت مع زيادة عمل الأطفال بين أطفال لاجئين، ومهجّرين داخليًّا وغيرهم من السكّان في منطقة الشرق الأوسط ككلّ.
وبالتالي فإنّ ظاهرة عمالة الأطفال باتت تؤرق ضمير المجتمع الدوليّ، ليُلقَى الحِمْلُ الأكبر للحدّ من انتشار ظاهرة عمالة الأطفال على منظّمات المجتمع المدنيّ، ومكاتب حماية الطفل، وغيرها ممّا يهمّه الأمر والتي تدّعي حسب زعمها بأنّها تسعى للحدّ من ظاهرة عمالة الأطفال الآخذة في ازدياد.
وعليه سيُثقَل المجتمع بجيل لا يعمل سوى أعمالًا حرفية غير مستقرة، مجتمع مليء بجهل جيل غير متعلّم، لا يسهم في بناء مستقبل بلده، وهو ما سيزيد بِلّةٍ إلى طينه.