يوم في الرقة الجديدة

خاص – الرقة تذبح بصمت

يبدو كل شيء طبيعياً عند الخروج من البيت، تماماً كما في السابق للوهلة الأولى، ولكن ما هي إلا لحظات حتى تبدأ الفوارق بالظهور، فترى الرجال قد أعفوا لحاهم وقصروا ثيابهم تنفيذاً لأوامر تنظيم “داعش”، كذلك النساء فلم تعد تعرف من أمامك من النساء حتى لو كانت أمك، أما عن أفراد التنظيم فعددهم يتفاوت بين حيّ وآخر وكل له شكل مختلف، فتجد بعضهم يلبس ثياباً نظيفة وتكاد تشم رائحة المسك تفوح منه، وآخر تنفر من رائحته قبل عشرات الأمتار، أمّت عند الخروج من الأحياء الصغيرة فترى اللافتات تملأ الشوارع والنقاط الاعلامية لعرض الإصدارات المرئية الخاصة بالتنظيم والتي يرهّب عبرها الأهالي.

لا تستطيع التمييز بين وظيفة عناصر التنظيم المنتشرين في الرقة، فكلهم مدججين بالسلاح ومعظمهم يرتدي الأحزمة الناسفة، لكنهم يكادون يجتمعون بوظيفة “الحسبة” الغنية عن التعريف، فكل عنصر من عناصر التنظيم يأخذ دور المحتسب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في حال عجزهم عن إيجاد تهمة واضحة ضد الخصم الذي يكون غالباً من المدنيين.

أصبحت الحياة في الرقة مقلوبة رأساً على عقب، ففي السابق كانت مليئة بالعمل والدراسة لطلاب المدارس والعبادة للناسك، وكان للتسوق رفقة الزوجة والتبضع وبخاصة قبيل العيد لذة خاصة، وكذلك زيارة الأقارب، أما الآن فأصبح ما ذكرت رغم بساطته أمر يكاد يكون مستحيلاً، فاليوم يجب عليك أن تحسب ألف حساب قبل أن تفكر بالخروج برفقة الزوجة أو الأم، ويجب أن تدقق على أتفه التفاصيل في لباس المرأة، فأصغر خطأ قد يعرضك للسجن لدى الحسبة أولاً وهناك “مقر الحسبة” تتسارع الأحداث، وخطأ زوجتك الصغير في اللباس يمكن أن يودي بحياتك ولا عجب. وفي السوق يجب أن تحكم إغلاق فمك وغض بصرك حتى عن الحجر وتكتفي بشراء حوائجك وتعود قبل أن يزلق لسانك بكلمة تعتبر كفراً غير صريح ولكن نباهة وبلاغة عناصر التنظيم حديثي الإسلام تستطيع كشفها وتحديد ما وراء تلك الكلمة من عقوبات في الدنيا والآخرة، ولا تستبعد معرفتهم ” قدس الله سرهم” من أي باب من أبواب جهنم تدخل بعد قولك ما قلت، فإلى هذه اللحظة تكاد صورة ذلك الشاب العشريني لا تفارق خيالي، وقصة ذلك الشاب بكل بساطة أنه تأفف من غلاء سعر “البندورة” وقام بشتمها، فاستنتج أحد العناصر أنه كفر وقرر أن يعطيه العقوبة اللازمة لما اقترفه لسانه، وبعد وصوله لمقر الحسبة وأثناء التعذيب حدث المحظور فشتمهم أو كفر كما يدّعون فكانت نهايته مصلوباً مقطوع الرأس عند دوار الساعة – وعن التغيير الذي حصل في الرقة منذ إعلان الخلافة المزعومة، نحتاج لساعات طويلة من الحديث، فكل شيء ازداد سوءاً عما كان عليه في السابق، فالأسعار تضاعفت وأصبح المدني يحلم بالعيش كما السابق رغم سوء الحال ولكن “الرمد أرحم من العمى” كما قيل، وما زاد الحياة سوءاً، هو قطع النظام رواتب الموظفين بشكل كامل وبالمقابل منع التنظيم المدنيين من السفر، وفرض الضرائب على أصحاب المحلات التجارية.

يمتلك التنظيم أسطولاً لابأس به من من مصافي النفط في العراق وسوريا، وأصبح الوقود بكل أنواعه السلعة الأكثر مبيعاً في مناطق سيطرة التنظيم بل وهي الأرخص مقارنة بالسابق، وبدأت مادة “الكاز” شبه المنقرضة بالعودة والتداول من جديد بعدما أصبحت اسطوانات الغاز عملة نادرة في المدينة، رغم توفرها لمقاتلي التنظيم.

كل شيء في الرقة أصبح جبرياً، فالرجل مجبر على إعفاء اللحية وتقصير الثياب، والمرأة مجبرة على ارتداء الملابس المفروضة من قبل التنظيم والقائمة تطول، لكن الجميع مجبرين على البقاء في الرقة، وعدم التواصل مع ذويهم في الخارج إلا عبر مقاهي انترت قليلة تحت رقابة التنظيم.

كل يوم أعيشه في الرقة يزيد من حقدي واندفاعي لمحاربة هؤلاء الشُذّاذ، ولكن ما يردعني عن مجرد التفكير في ذلك هو أن عائلتي إخوتي في الرقة، فالتنظيم لا يرحم أي فرد من أفراد العائلة في حال اكتشافهم أني أعمل ضدهم.

حدثني أحد الأصدقاء أنّه في بدايات سيطرة التنظيم على المدينة، وفي طريقهم إلى مدينة دير الزور، أوقف المركبة حاجز المشلب على بوابة الرقة الشرقية، وأثناء التدقيق على هويات المسافرين، تعرف العنصر على اسم أحد الركاب، فبدأ الحديث:
المقاتل: “أنت فلان ابن فلان؟”
الرجل: “نعم أنا”
المقاتل: “انزل واجلب حقيبتك معك”
الرجل: ” لماذا؟، ما المشكلة؟”
المقاتل: “أبوك شبيح، كان يعمل في الحزب”
الرجل: “نعم كان في الحزب، ومات قبل الثورة”؛ وتابع بالعامية: “بعدين يا شيخ، لا تزر وازرة وزر أخرى”
المقاتل: “لا بالله، تزر”
فأنزل الرجل وأمر السائق بالذهاب ونفذ الأمر رغماً عن أنفه وأعيننا تنظر، ولا حول لنا ولا قوة.

هنالك مثل بالعامية يقول: “من جرب المجرب، عقله مخرّب”، فقد رأيت الكثير من أقربائي الذين خرجوا سواءاً مجبرين أم لا، يذوقون أمرّ العذاب، فكل مكان غير مدينتك التي عشت فيها هو غربة، وإن كان يبعد عنها بضعة كيلومترات، رأيتهم وهم يموتون ألماً على فراق بيوتهم وأقربائهم رغم أنهم في مأمن من القصف وبراميل الموت، ولكن بنظري، الموت في الرقة أرحم من العناء والشقاء في بلاد الغربة، فهما عملت وحصّلت أموال الدنيا وأخذت جنسية البلد الذي تعيش فيه، تبقى الغريب في نظرهم، والآن وللأسف في كل مكان يذهب له أهل مدينتي، يبقون تحت الأنظار ومراقبة السلطات، فهم “الدواعش” مهما فعلوا، حتى لو كانوا مسيحيين. تكاد الأيام في الرقة تكون متشابهة، باستثناء اختلاف توقيت قدوم الطيران الحربي، يبدأ اليوم بالذهاب إلى السوق وجلب أغراض المنزل، ثم الذهاب إلى العمل والالتزام بقواعد الكلام فكل كلمة يجب تزان في ميزان قبل أن تخرج، ولا ننسى الذهاب إلى المسجد كل صلاة بوقتها، ثم العودة إلى المنزل والبقاء حتى اليوم التالي.
تعتبر الرقة مدينة زراعية بامتياز، تُزرع فيها الكثير من الخضروات، وكذلك لدى التنظيم سياسة في السماح للخضروات والفواكه بالدخول من أماكن سيطرة النظام، مقابل النفط كما أعتقد؛ لذلك لدى الرقة كم لابأس به من الخضار والفواكه رغم غلاء أسعارها.

الدواء والطبابة في الرقة، هي الأمر الأكثر مأساويةً، فالنظام لا يسمح للأدوية بدخول المدينة وكذلك الفصائل الأخرى، وازداد الأمر تعقيداً بعد سيطرة الأكراد على مدينة تل أبيض الحدودية مع تركيا، فأُغلق بذلك آخر معابر الأدوية للمدينة.

يزداد في كل يوم عداد الضربات الجوية على المدينة، ولسوء حظ المدنيين، فإنّ معظم الضربات استهدفت المشفى الوطني، أكبر مشافي المدينة وشريان الحياه للجميع؛ اليوم المشفى الوطني أصبح تماماً خارج الخدمة وأصبح المرض مصيبة لا تعادلها مصيبة.

منذ تحرير المدينة، كانت محطات الكهرباء إحدى أهم أهداف الطيران الحربي، فكانت الكهرباء شبه معدومة، وكان إصلاح شبكة الكهرباء –ويزال- أمر في غاية الصعوبة؛ أما الآن تم اتباع نظام الأمبيرات، حيت توجد مولدة كهرباء ضخمة في معظم الأحياء، ويتم توزيع الكهرباء على المشتركين مقابل أسعار متفاوتة تختلف من مكان لآخر، ولمدة عشر ساعات يومياً؛ أما المياه فكانت ولاتزال ولله الحمد الأكثر وفرة بفضل جوار الرقة لنهر الفرات.

تتصدر الرقة اليوم عناوين الأخبار، وارتبط اسمها بالتنظيم، فهي عاصمة الخلافة فيما يتناسى الجميع أنها عاصمة التحرير؛ أذكر في أحد الأعوام أُقيم في الرقة مهرجان “طلائع البعث”، أتى الطلاب من كل المدن السورية، ولا أحد منهم يعرف الرقة، فتجد أحدهم يحمل في حقيبته شوكة وسكين وملعقة ظنّاً منه أن أهل الرقة لا زالوا يعيشون في الخيام وفي صحراء قاحلة. أمنيتي الوحيدة اليوم أن ينسى العالم اسم الرقة من جديد، ونعود لحياتنا الجميلة، رحم الله الجواهري حين قال: “أقول وربما قول يدلّ به ويبتهلُ، ألا هل ترجع الأحلام ما كُحلت به المُقل؟!”.