إذا الرقة سئلت (6)

إذا الرقة سئلت (6)
مدخل مدينة تل ابيض

خاص – الرقة تذبح بصمت

الجزء (6)

أما الحادث الثاني، فكان تحرير مدينة تل أبيض، الذي سبقته مقدمات كانت أساساً موضوعياً رجح ميزان القوى لاحقاً لصالح الثورة والثوار، وأهم هذه المقدمات كانت معركة (بير عاشق) التي هُزم فيها النظام وقواه العسكرية، واستولى فيها الثوار على أسلحة منه لأول مرة، واستطاعوا إعادة تجميع قواهم وتكتيل أنفسهم في مواجهته، والأهم من ذلك كله كان الصدى النفسي لدى القوى الشابة المترددة في مواجهة النظام بالسلاح وكسر شوكته من الترجيع الحسن، وكسر جدار الخوف الذي كان عملياً أقوى رصيد لدى السلطة تعتمد عليه في مواجهة الهَبَّة الثورية المتصاعدة، وبخاصة لدى الجيل الجديد الشاب، الأمر الذي حفز الكثير من الشباب المتأثر والمتردد أن حسم تردده لصالح الإنخراط المباشر في الكفاح القتالي المسلح في مواجهة النظام دون أي خوف أو تردد.

معركة بير عاشق:

معركة بير عاشق كانت ضربة الإزميل الأولى في الصخرة الصماء التي تقرر أن تتحول إلى تمثال، فإذا كان التمثال هو الثورة (في طورها المسلح)، فإن معركة بير عاشق هي أولى ضربات نَحَّاتها في الجسد الأصم، أما هيولى الصخرة الأولى ـ أو مادتها الخام ـ في تلك المعركة المسلحة مع النظام، والتي بدأت مع نظام الأسد ولم تقف عند حد أو نهاية حتى كتابة هذه السطور، فكانت شيئاً أطلق عليه يومذاك، أواخر عام 2011 اسم (كتيبة القادسية).

لم تكن كتيبة القادسية شيئاً يشبه الكتائب التي درجت وتصنعت فيما بعد، بل كانت أشبه بحادثة الإنفجار الكوني الكبير الذي أعقبه ولادة الكواكب والمجرات، وتالياً ما سُمِّي ببداية الكون. كانت تجمعاً لثوار فارين من مطاردة الأمن، ولكثيرٍ من الناقمين والذين يتوقع أنّ أغلبهم لا يعرف بعضهم من قبل، واجتماعاً تلاحمياً حَشَدَ المتعجلين للقاء قوات النظام والمنازلة معها في ساحات العمل المسلح تحت اسم جامع، ولذلك جمعت القادسية أشخاصاً من كل حدبٍ وصوب، ومن شتى الأطراف والبيئات والمواضع في محافظة الرقة، فكما أن القادسية كانت التجربة الأولى والإختبار الأول للثورة والثائرين، كانت معركة بير عاشق، صدمة الصدامات القادمة وحركتها التي قررت مستقبل الحراك العسكري فيما بعد، ومنحت الرقة النتائج التي ترادفت وترتبت على تسلسل الأحداث ومنطقيتها.. أو لامنطقيتها.

لقد انحلت تالياً كتيبة القادسية، وبانحلالِها أُعلِن عن تشكيل الكتائب، كالجيش الحر والنصرة فكانت، البذرة التي استحالت إلى شجرة ضخمة، فقد تزود الحراك العسكري من معين الثورة، ومن شعاراتها وحواملها الغضبية التي قامت عليها، وأعاد إنتاج الغضب الكامن منذ سنين في صدور الناس ونفوسهم على هيئة كفاح مسلح منذور لأهداف محددة، ومنح المحافظة قضية جديدة هذه المرة، قضية ثورية في الأصل، لكنها بدأت تفرز المادة الأولى لتلك الطبقة العسكرتارية من مسلحين عشوائيين، والتي ستحكم منطق الأمور لاحقاً، وستديرها بقوة السلاح، وكذلك ستسحب شيئاً فشيئاً قضية الثورة وأهلها وأهل الإحتجاجات السلمية والمظاهرات التي نشطت واصطخبت في كل المحافظة مدينةً وريفاً، وستُنَحيهم جانباً قبل أن تبعثرهم وتعمل على تهميشهم واعتقالهم، ولاحقاً اغتيالهم لصالح دعاوي جديدة بدأت تظهر خجولة في البداية، ثم تمددت وارتفعت لها رايات وأصبح لها غايات، وبدا جلياً أن الأمور أخذت تدخل مساربَ مختلفة، وتسير وتعمل لصالح قوى ظلامية منظمة وممولة وهي في كامل الأهلية والإستعداد للعمل، لا على تدمير الثورة وأهلها فحسب، بعد أن عجز النظام عن إنجاز هذه المهمة وأعيته الحيلة والوسائل رغم كل آلة البطش ووسائل الترهيب التي مارسها، بل وعلى الفتك بالمجتمع السوري عامة، والرقة على وجه أخص.

دائماً وفي كل الثورات والتحولات الإجتماعية الكبرى والخطيرة، هناك أقلية مخربة تستطيع أن تدمر المشروع وتستأثر بالفكرة لمصلحتها، وتفكك الإحتجاج والرفض العام لصالح فوضى شاملة تعيد إنتاج الطغيان وهيمنة الأجهزة والمؤسسة الظلامية التي تكون غالباً قد وصلت إلى حد النخر والتفكك، ووشك الوصول إلى حالة من التداعي الكامل، الخطر أيضاً يظل قائماً في أن تتحول هذه الأقلية إلى أكثرية مُدمرة بعد أن تتمكن من إزاحة الأغلبية الثائرة المحتجة، وتنجح في تنفيذ إبادتها بالتقسيط، أو دفعة واحدة، هذه الطبقة الأقلية غالباً ماتكون مولودة في أوساط اجتماعية مغيبة ومنبوذة منذ أن استولى البعث على السلطة، حيث عمل على التخطيط لسياسة الإفقار والتجهيل، وبخاصة في تلك الأرياف التي بدأت تذوي وتنحل إلى بدائية وهامشية وكأنها ترتدُّ قروناً إلى الوراء.

إذا الرقة سئلت (6)
دوار الحرية في تل ابيض – ارشيفية

كان هذا الوسط (الريفي) الساكن ـ وحتى المديني جزئياً ـ سهلَ الإستقطاب بطرق كثيرة، على رأسها الإغراءات المادية والمال، فضلاً عن إغراء تظهير تلك الشخصيات المهمشة بصفات اعتبارية طالما عاشت تحلم بأمثالها وتعطشاً لها، (كأن يُسمى المستقطب لصالح التنظيمات الأصولية الوليدة أميراً وقائداً وشرعياً ودعوياً وشيخاً خطيباً ومعلماً ومسؤول عشائر ومالٍ عام وعلاقات ومجاهداً من المجاهدين..الخ..)، في زمنٍ حصر فيه البعث الإعتبارات كلها واحتكرها لصالح (فرع الحزب والشعبة والمؤيد المتعاون والموظف الهام ومسؤول الجمعية والمخبر..الخ..) ثم شيئاً فشيئاً بدأ يسحب حتى هذه الإعتبارات القليلة والضئيلة ممن اختصهم بها، وعمل على تضييق الامتيازات الممنوحة لفئة نخبوية محيطة به وإماتتها بتقادم الزمن.

هذا التهميش المتصاعد، والطويل الأمد، حرض خلال سكونية تلك السنين فئات مجتمعية وتكوينات أقوامية، وأغراها بمغريات وضعتها داعش بين يديها، إذ لم يعد بعيداً عن متناول اليد بعد اليوم أن يصبح (أجير الفران) شرعياً، يحكم بـ “شرع الله” ويرجم الناس أو ينفذ أحكام الإعدام فيهم ببرود وراحة ضمير، وأن يتحول “صبيب الباطون” إلى قائد عسكري، وراعي غنم أمي وجاهل إلى أحد ولات الأمور الذين يستحوذون على السلطة والنفوذ وقرار الأمر والنهي والقطع في كل الأمور، حتى بات الوصول إلى أمثال هؤلاء والقربى منهم من الأمنيات والمفاخر، وممن يرتجى قربهم ويطلب رضاهم لما لهم من حظوة وسطوة مباشرة ونفوذ منحته داعش، ماكان حتى نظام الأسد ليمنحه لأقرب مقربيه.

سيكون لخطة بحثنا هذا هدف يفكك لنا بعض معضلات الفهم في صورة الهيئة والوسط السكاني، ودرجة تطور الحدث الثوري العام الذي غرقت فيه المنطقة عامة، وهذا يوجب علينا أن نتفهم الشخصية الأولى التي ارتكزت عليها داعش في الرقة عموماً، شخصية (أبي لقمان) أولاً، ودور اللواء أديب نمر سلامة، رئيس فرع المخابرات الجوية في سوريا في التأسيس لمشروع داعش في الرقة ثانياً، وثالثاً خطة تأسيس نواة أصولية تتبع لتنظيم القاعدة اسمها جبهة النصرة، سرعان ما سوف تنقسم إلى نصفين: فإذا بها تلد تنظيم داعش من أحشائها عبر أطوار غرائبية التكوين، تتداخل فيها الفصول تداخلاً يجعل فهم وتفكيك هذه الشبكة العنكبوتية يصعب على عقول وأذهان الكثيرين، وتترك قطاعاً كبيراً من الشعب السوري مبلبل الفهم، يستلهم الحقائق بحدسه الباطني العميق ويعي مايجري حوله بما يراكم من خبراته، دون أن يستجمع مادة خبرته بصورة موثقة قائمة على حقائق لا تقبل الطعن أو الجدال فيها.