تنظيم داعش يتبنى نظاما فيدراليا لتأمين مصادر دخل

القيادة الجديدة تتخلى عن المركزية الاقتصادية، وخبراء يرون أن ذلك سيزيد من تعقيدات المواجهة الدولية ضد الإرهاب.

يربط البعض من المراقبين بين هزيمة داعش الميدانية والقتالية وبين ضعفه، إلا أن الحديث عن التراجع يقترن بالأساس بقدرة التنظيم على توفير مصادر تمويل وفيرة ومستقرة وهي الشفرة التي يحاول فكها من خلال تعديل استراتيجية التمويل بالتركيز على الاقتصادات المحلية، حيث سيتحول على الأرجح من نظام تمويل “مركزي” في العراق وسوريا إلى نظام موزّع بشكل كبير.

سلطت تحذيرات مارشال بيلنغسلي، مساعد وزير الخزانة الأميركي لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب، بتغير نمط تمويل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من المركزية إلى النظام اللامركزي، الأضواء على قيمة وأهمية الحركة الاقتصادية للتنظيم، والكشف عن قدرته على التمحور والتطور.

وأثار المسؤول الأميركي جدلا كبيرا في المؤتمر الصحافي الذي عقده، الخميس الماضي في لوكسمبورغ، عندما أشار إلى أن تنظيم الدولة الإسلامية، “ما زالت لديه قدرة كبيرة على الحصول على الملايين من الدولارات”، بما يعني أنه يملك مصادر تمويل تجعله قادرا على التأقلم مع المتغيرات.

يأتي ذلك وسط تقديرات متضاربة بشأن المصير والحيرة اللذين تعاني منهما الدول التي شاركت في الحرب ضد داعش خلال السنوات الماضية، فبعد القضاء على جزء كبير من الجسم الفاعل في كل من العراق وسوريا، والقبض على الآلاف من المنتمين إليه لا يعرف العالم أين يضع أقدامه وما هي الخطوة المقبلة للتعامل مع داعش.

تحول في المراكز

يستثمر قادة التنظيم في هذا الارتباك. ويحاولون القبض على زمام الأمور من جديد. ويستفيد من المعركة الدائرة حاليا حول مصير عشرات الآلاف من عناصر التنظيم والزوجات والأطفال القابعين في شمال شرق سوريا، فالدول الغربية لا تبدي استعدادا لعودة من يحملون جنسيتها. وتركيا تناور بهذه الورقة وممارسة المزيد من الضغوط. وقوات سوريا الديمقراطية الكردية تلوّح بالتخلي عن مسؤوليتها عن القابعين في سجونها بعد فتور العلاقة مع الولايات المتحدة.

لم تكن التصريحات الأميركية سوى ورقة تضاف إلى دفتر كبير من التمدد الخطير للجماعات المتطرفة، والقدرة على التلوّن، وتوظيف التناقضات الحاصلة بين قوى إقليمية ودولية عديدة.

تفضي التطورات الاقتصادية إلى تغيير في طبيعة العمل داخل التنظيم بناء على الظروف الراهنة. لكن يعتقد خبراء أن التحول من النظام المركزي إلى اقتصاديات لا مركزية وموزعة ومستقلة مسألة تزيد من تعقيدات المواجهة الدولية ضد الإرهاب، وتحدّ من التفاؤل الذي صاحب هدم قواعد التنظيم الرئيسية في سوريا.

وقال ديفيد وينتر، الباحث في المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب في لاهاي بهولندا، إن داعش يتجه نحو تغيير شكله كليا بعد مقتل زعيمه أبوبكر البغدادي، وتولي قائد جديد، وإحدى الدلالات على ذلك التحول الجاري في المنظومة الاقتصادية.

يبدو التنظيم أقرب للعمل بالمنظومة الفيدرالية، عقب تواضع حظوره في سوريا والعراق.

وبات يميل أكثر إلى نظم الإدارة الذاتية لكياناته الميدانية في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبصورة تسمح للخلايا بالعمل بحرية أوسع في التخطيط وتنفيذ العمليات، وتوفير تمويلات خاصة لتصبح مثل النظام الفيدرالي، أي كل ولاية لها مصادر دخل وقوانين، وفي النهاية تبقى تحت لواء إدارة مركزية واحدة.

مع تولي أبوإبراهيم الهاشمي قيادة داعش، وهو اسم غير معروف، تواترت الأسئلة حول تأثير ذلك على حظوظ التنظيم ككل. وثمة من يرى أن التنظيم الرئيسي والأفرع المتباينة واجها أزمة توافق على قائد جديد.


تحول النظام الاقتصادي لداعش دليل على وجود أزمة داخل التنظيم


وخشي القادة الكبار من أن يؤدي موت البغدادي إلى تفكيك خطير في هياكل التنظيمن وظهور كيانات منشقة موازية. وخرجت هذه المخاوف من وجود أفرع تمتلك رغبة في الاستقلال، مثل بوكو حرام في نيجيريا، وجماعة أنصار الإسلام في الفلبين.

راقت فكرة الميل نحو إعطاء الحكم الذاتي لكل جماعة تابعة لداعش للبعض، وبدت خطوة جيدة لقطع الطريق على من يريدون الانفصال، وترضي غرور زعماء الأفرع الساعية للاستقلال الذاتي.

أوضح وينتر في تصريح لـ”العرب”، عبر الهاتف من لاهاي، أن هناك معايير تحدد تقدم وتراجع التنظيم، بينها السيطرة الميدانية والتوسع الأيديولوجي، والقوة الاقتصادية التي تساعد على زيادة رقعة الأرض وترفع فاعلية التجنيد والاستقطاب.

ولفت وينتر إلى أن الأمر يحتاج 500 دولار فقط لإطعام وتوفير سكن خلية إرهابية من شخصين أو ثلاثة، قائلا “قاعدة إنشاء حركة متطرفة تقول: معك أموال إذا أنت قادر على البقاء”.

عكس التحذير الأميركي خطورة الوضع، وما يحمله من تداعيات يمكن أن تحول المسألة من المركزية إلى اللامركزية أو ما يعرف بـ”المال الموزع”، لأن ذلك يعني صعوبة تعقّب حركة الأموال وتجفيف منابع الإرهاب بسبب كثرتها وتشعبها.

منابع جديدة


التحولات المنتظرة قد تصبح أكثر دموية ووحشية 


أكد وينتر أن أفرع داعش متنوعة ومتواجدة في بلدان عدة، وداخل كل دولة العشرات من الفرص الاستثمارية، ويستفيد التنظيم من فوضى أبار النفط في ليبيا مثلا، وهو من مصادر التمويل المهمة، في حين يعتمد الجنود على أموال الفدية من عمليات الخطف في الفلبين وباكستان ونيجيريا، بينما يعملون بالتجارة في شرق أفريقيا ومالي والنيجر.

أفصحت الولايات المتحدة عن البعض من أدوات داعش الاقتصادية المستحدثة، منها التركيز على مقدار الفدية المتحصلة من عمليات الخطف والابتزاز، والتغول في ممارسة السرقات في نيجيريا، حيث عرفت عناصر التنظيم بسرقة الأبقار هناك، على عكس السابق، حيث كانت المصادر الأساسية منحصرة في جمع الجباية وبيع الآثار وعوائد النفط الذي يتم تهريبه.

يبدو تحول النظام الاقتصادي لداعش دليلا على وجود أزمة داخل التنظيم، تتعلق بضعف استقبال المنح والتمويلات من المنظمات والعناصر المشبوهة، وصعوبة توفير شبكة تداول الأموال بين الأفرع بسبب تصاعد درجة الرقابة القوية واللصيقة من مجموعة مكافحة تمويل داعش التي أنشأتها الولايات المتحدة وتضم السعودية وبعض الدول الأوروبية، لتعقب حركة الأموال وقطع الطريق أمامها.

يعني استقلال الأفرع ماديا أن قادة داعش الجدد فشلوا في الحفاظ على هيمنة المركز، وهو لب فكرة الخلافة الحاكمة، وباتوا عاجزين عن التمدد اقتصاديا.

ويمثل وجود نظام يحكم التنظيم المتطرف بعد رحيل البغدادي، أن القائد الحالي جاء محمّلا بأهداف سياسية ودينية واقتصادية تختلف عن سابقه. ويمكن اعتبار سياسة داعش الاقتصادية الجديدة مسألة تبرهن على ذلك التغيير المنتظر.


أفرع داعش متنوعة ومتواجدة في بلدان عدة


وكشفت ماري لوبكين، كاتبة كندية متخصصة في دراسة الاقتصاديات غير الرسمية للجماعات والكيانات المتشددة، أن داعش يعتبر من التنظيمات الذكية، ويناهض المجتمع العالمي ويقف ضد أفكاره، لكنه يستخدم آلياته في التطوّر السياسي والاقتصادي.

وأضافت، في مقال لها على موقع “ميديم تي.آي”، المتخصص في رصد ومكافحة الإرهاب، أن النظام العالمي يتجه أكثر نحو الاقتصاديات اللامركزية، ومنح المزيد من الاستقلالية للكيانات المختصة والمسؤولة عن الملفات الاقتصادية الرئيسية، ورفع يد السلطات الرسمية المباشرة على حركة الاقتصاد.

يدرك داعش هذه المعادلة وقدرته على التعامل مع توازناتها، ويعمل وفق الآلية العالمية، ويرغب في هدم النظام العام، لكنه يسعى للتطور عبر أدواته أولا، ليحقق أعلى استفادة ممكنة.

لم يكن التحوّل في المركزية الاقتصادية الدلالة الأولى على الفلسفة التي يملكها التنظيم، وسعت قياداته عند الإعلان عن الخلافة بمناطق في سوريا والعراق إلى إبراز التنظيم كدولة حديثة لها نظام متماسك وحكومة وبرلمان (مجلس شورى) وكيان اقتصادي وعملة مستقلة وحركة اجتماعية منتظمة.

لن تتوقف عملية تمحور التنظيم في المستقبل عند عمليات التمويل، وقد يصاحب ذلك تغيرات واسعة في طريقة تنفيذ العمليات ومنح الأسلحة وأسلوب الاستهداف، بما يتماشى مع النظام الجديد الذي يدير التنظيم الراديكالي، ومن المرجح أن تصبح التحولات المنتظرة أكثر دموية ووحشية لتسير بالتوازي مع إعادة بناء داعش وتجديد الدماء.

المصدر : alarab.co.uk