(داعش) باقية.. يدّعي دونالد ترامب أنه هزم الدولة الإسلامية، لكن الجماعة مصممة على إثبات خطئه

في شباط/ فبراير الماضي، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن الدولة الإسلامية هُزمت “بنسبة مئة في المئة”، ونسب الفضل في هذا النصر المزعوم إلى نفسه. ولسوء الحظ، بدا الرئيس والحقيقة متباعدين جدًا، مرة أخرى. صحح جون بولتون، مستشار الأمن القومي، تبجح ترامب، وأخبر شبكة ABC  الإخبارية أن “تهديد داعش ما زال قائمًا”. وأكدت تقارير وزارة الدفاع الأميركية أن بقايا الجماعة أو فروعها ما تزال نشطة في عدة أماكن، ومنها أفغانستان. وفي الأسبوع الماضي، ذكرت مقالة مطولة في صحيفة نيو يورك تايمز أن الجماعة تستعيد قوتها في العراق وسورية.

كان من الخطأ الواضح أن يدعي ترامب أن الدولة الإسلامية هُزمت تمامًا، على الرغم من أن استمرارها وانتعاشها الجزئي ليسا مفاجئين على الإطلاق. على العكس من ذلك، فإن الاعتقاد بأن مثل هذه الجماعة يمكن هزيمتها بالكامل على المدى القصير، أو المتوسط، ليس هدفًا واقعيًا على الإطلاق. كان القضاء على سيطرة الدولة الإسلامية على جزء كبير من العراق وسورية (معظمه صحراء فارغة) هدفًا ممكنًا، وقد قامت الولايات المتحدة وشركاؤها المحليون بهذه المهمة بفاعلية كبيرة. لكن القضاء على التنظيم بالكامل لم يكن أمرًا ممكنًا، على الأقل في الوقت القريب.

في الواقع، يمتلئ التاريخ بأمثلة عن الحركات السياسية و/ أو الدينية الراديكالية التي حظيت برواج قصير، وعانت انتكاسات لسبب أو لآخر، ولكن مع ذلك ظلت قائمة لعدة عقود. لنتأمل “الهزازين“، وهي طائفة مسيحية تدعي الورع والرهبنة، يتذكرها معظمهم الآن بسبب أثاثها. كان الهزّازون، من نواحٍ كثيرة، هم النقيض الأيديولوجي للدولة الإسلامية، وعلى سبيل المثال كانوا يؤمنون بالمساواة بين الجنسين والسلام، لكنهم كانوا أيضًا يحملون آراء متطرفة جدًا حول مجموعة متنوعة من القضايا. في القرن التاسع عشر، كان هناك الآلاف من “الهزازين” يعيشون في العديد من المجتمعات المنفصلة في جميع أنحاء الولايات المتحدة. تقلص هذا العدد إلى العشرات بحلول عشرينيات القرن الماضي، ويعزى ذلك جزئيًا إلى قواعدهم الصارمة بشأن العزوبية، الأمر الذي زاد من صعوبة نمو الحركة أو استمرارها. وعلى الرغم من ذلك، ما يزال هناك جماعة واحدة منهم، بعد أكثر من قرنين من تأسيس الحركة.

أو لنفكر في مثال مختلف وأكثر صلة بالموضوع. كان ليون تروتسكي لاعبًا رئيسًا في الثورة البلشفية في روسيا، ولكنه خسر في نهاية المطاف صراعًا على السلطة مع جوزيف ستالين وهرب إلى المنفى، حيث قُتل في النهاية على يد قاتل سوفيتي. كانت حياة تروتسكي في المنفى خالية من الإنجازات السياسية المهمة، لكنه احتفظ بولاء الآلاف من الماركسيين المخلصين الذين فضلوا روايته عن الشيوعية على رواية ستالين. توفي تروتسكي، لكن التروتسكية استمرت لسنوات بعد وفاته.

لذلك الأمر متشابه مع الدولة الإسلامية. فعلى الرغم من إغضابها وإخافتها ورعبها الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم، ومن فشلها في هزيمة خصومها أو إثارة عاصفة من الحماس الثوري في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ما تزال الدولة الإسلامية تحتفظ بولاء الآلاف من الناس، وما يزال بإمكانها جذب بعض الأعداد من المجندين الجدد. لكن لماذا؟ ما الذي يفسر قدرتها على البقاء، وقدرتها على الصمود، على الرغم من وحشيتها المستمرة، وفشلها شبه التام في الوفاء بأي وعودها؟

أحد الأسباب الواضحة هو أن الدولة الإسلامية فكرة بقدر ما هي حركة ملموسة، ناهيك عن “خلافة” قوية. يمكن لخصومها استعادة الأراضي التي سيطرت عليها أو قتل أو أسر معظم قادتها وجنودها، وتتبع جهود التجنيد عبر الإنترنت -تمامًا كما نفعل- ولكن طالما أن أفكارها يمكن أن تأسر خيال وولاء أتباع جدد، فستبقى الحركة بشكل من الأشكال.

في الواقع، مثل معظم الأيديولوجيات الثورية، فإن نظرة الدولة الإسلامية المستقبلية مصممة لعزل الحركة عن الإخفاقات والنكسات المحتملة. مثل اللينينية، والماوية، واليعقوبية، والأفكار الثورية الأخرى، تُقرّ أيديولوجية الدولة الإسلامية بأن كوادرها في زيادة عددية (في الوقت الحالي)، وتقبل أن خصومها أكثر قوة في الوقت الحالي، وتحذر من أن النكسات المؤقتة ممكنة، وتخبر أعضاءها بأن يكونوا على استعداد لتقديم تضحيات في صراع قد يستمرّ طويلًا. لكن كما تنبأ كارل ماركس وفلاديمير لينين وأتباعهم بالانتصار النهائي للشيوعية، يصرّ قادة الدولة الإسلامية على أن النصر أمرٌ حتمي على المدى الطويل، شريطة ألا يفقد أتباعها إيمانهم بنجاحها.

ومن المفارقات أن ميول الدولة الإسلامية المثيرة للخلاف قد تساعد في بقائها. عندما تواجه طائفة راديكالية أو جماعة سياسية انتكاسات، تزداد احتمالات حدوث انشقاقات بين الإخوة. في النهاية، تعتمد هذه الحركات عادة على ادّعاء الزعيم بأنه يمتلك “إيمانًا حقيقيًا” تجلّى له (سواء كان دينيًا أو علمانيًا). هذا يجعلهم غير متسامحين حيال المعارضة (ثم يجعلهم عرضة لتسمية المعارضين الداخليين على أنهم هراطقة أو خونة)، ويجعلهم أيضًا عرضةً للانشقاقات، حيث لا تتحقق نبوءات الحركة السامية.

الأخبار السارة هي أن هذه الانقسامات الداخلية تقوّض وحدة هذه الحركات، وتبدد الموارد التي تحاول منع التحديات الداخلية أو إلحاق الهزيمة بها، وتجعلها أقلّ فاعلية في التعامل مع خصومها الخارجيين. لكن الأخبار السيئة هي أن الميل إلى الانقسام إلى مجموعات وفصائل منشقة مختلفة قد يساعد في الحفاظ على المجموعة الأوسع من الأفكار؛ لأن هزيمة فصيل واحد لن تكفي لتشويه سمعة الحركة بالكامل. قد يمنح هذا الاتجاه نفسه أيضًا أملًا جديدًا لأولئك الذين أصيبوا بخيبة أمل من النتائج حتى الآن، ويمكن إقناعهم بالاستمرار تحت قيادة قائد جديد أو لافتة جديدة.

علاوة على ذلك، لم تختف الدولة الإسلامية بعد، لأن بعض الظروف والمظالم التي غذت ظهورها ما زالت قائمة. منذ البداية، استمدت جميع الحركات الجهادية تقريبًا بعض دعمها، بسبب المعارضة الصريحة للتدخل الأجنبي (الغربي) في العالم الإسلامي. هذا صحيح بالنسبة إلى حركة طالبان، كما هي الحال مع تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية (على الرغم من وجود اختلافات مهمة بينهما). لنُخمّن السبب؟ ما تزال القوى الأجنبية تتدخل في المنطقة، وما يزال الزعماء الغربيون – ومنهم ترامب- يقولون ويفعلون ما يبدو أنه يؤكد دعاية (بروباغندا) الدولة الإسلامية من أن الغرب “في حالة حرب” مع الإسلام. (الدولة الإسلامية نفسها في حالة حرب مع كل شخص تقريبًا، بالطبع، بما في ذلك ملايين المسلمين الذين تعدهم زنادقة). وطالما استمر هذا المستوى من التدخل الأجنبي، فإن الدولة الإسلامية وأخواتها سيكونون قادرات على كسب قلّة من المجندين.

كانت الدولة الإسلامية، وما تزال، معادية للحكومات العربية والإسلامية القائمة، ويعتقد قادتها في الأصل أن إعلان خلافة سيؤدي إلى إشعال انتفاضة متعاطفة ستطيح ما يُسمى بالمرتدين الفاسدين الذين يحكمون الآن الدول العربية الرئيسة. لم تكن هذه النتيجة ممكنة على الإطلاق ولم تحدث، لكن سلوك بعض الحكومات العربية البارزة لم يفعل الكثير لدحض اتهامات الدولة الإسلامية. إن الدفاع عن سلوك نظام عبد الفتاح السيسي في مصر أو محمد بن سلمان في المملكة العربية السعودية، ليس بالمهمة السهلة في هذه الأيام، ويمكنك أن تراهن على أن مناصري الدولة الإسلامية يسارعون إلى تسليط الضوء على الطبيعة الوحشية والمتقلبة لهذه الحكومات وعلاقاتها الحميمة مع الولايات المتحدة. مثل هذه الحجج لن تحوّل الدولة الإسلامية إلى قوة ثورية ساحقة (ولن تسمح لها باستعادة موقعها السابق في العراق وسورية)، لكنها قد توفّر فقط ما يكفي من الأوكسجين الأيديولوجي لإبقاء الحركة على قيد الحياة.

مثل كل العمليات الإجرامية -وأي حركة تقطع رؤوس الأبرياء وتموّل نفسها بأنشطة غير قانونية تستحق هذا التصنيف تمامًا- فإن الدولة الإسلامية تزدهر في المناطق التي تخضع لنظام حكم ضعيف. لقد ظهرت لأول مرة بعد تدمير دولة البعث في العراق وانهيار المؤسسات المحلية هناك، وقد انتقلت الآن إلى المناطق الخاضعة للحكم الرخو مثل أفغانستان. إنها تستمر اليوم -وقد تكون عودة جزئية- لأن السلطات المحلية تظل ضعيفة وفاسدة وغير مؤهلة في العديد من هذه الأماكن. إن الحل الوحيد لهذه المشكلة هو إنشاء سلطات محلية أكثر فاعلية وشرعية، لكن هذه مهمة طويلة الأجل لا تستطيع القوى الخارجية أن تنجزها بمفردها.

لكل هذه الأسباب، فإن إعلان النصر التام على حركةٍ مثل الدولة الإسلامية يشبه إعلان النصر على فصل الشتاء بمجرد انتهاء تساقط آخر مرة للثلوج. مثل هذه التصريحات تدغدغ رغبتنا الطبيعية بأن نؤجل المشكلات المزعجة، والسياسيون مثل ترامب مسؤولون بشكل حتمي عنها. لكن مثل هذه الادعاءات تضلل بطريقتين: الأولى أنها تبالغ في تقدير الخطر الذي شكلّته الدولة الإسلامية في السابق. والثانية تبالغ في تقدير درجة انتهاء هذا الخطر (المتواضع).

من الأفضل أن ندرك أن الدولة الإسلامية ليست مهزومة تمامًا، وربما لن تختفي تمامًا لفترة طويلة. لحسن الحظ، أنها ليست تهديدًا وجوديًا. من المحتمل أن تظل بقاياها مشكلةً تستحق قدرًا من الاهتمام والجهد لفترة طويلة، على الرغم من أن معظم الجهد يجب أن يأتي من البلدان في المناطق التي تنشط فيها. لا يجب تجاهلها تمامًا، لكن لدينا مشكلات أكبر بكثير للتعامل مع هذه الأيام والسنوات المقبلة.

المصدر : geiroon.net