الرقة حاضرة وتاريخاً

تأخذ الرقة في الكتب المدرسية الرقم 13 عندما يبدأ عد المحافظات السورية، وتبقى دائماً خلفها في المركز الأخير القنيطرة، على اعتبار الأخيرة أصغر المحافظات مساحة وعدد سكان، وربما لأن جزءاً منها لا يزال محتلاً في الجولان السوري.
الرقم 13، بدلالاته التشاؤمية، لا يزال يلاحق الرقة، في كل تاريخها تقريباً، ما عدا ومضة واحدة أيام الخليفة العباسي هارون الرشيد، أما الخلافة الطارئة الآن فأعادت إلى الرقة وأهلها الشعور بالتشاؤم مرة واحدة وبشكل مضاعف، إذ تكاد الرقة المدينة تخلو الآن من سكانها الذين كانوا يناهزون 600 ألف نسمة قبل بدء الثورة السورية.
في بداية ستينيات القرن الماضي كان الطلاب يذهبون إلى دير الزور، أو إلى حلب، لإكمال دراستهم الثانوي. وحتى بداية السبعينيات كانت الرقة مقصد هجرة من المدن القريبة والبعيدة، فكانت تستقطب المعلم، والطبيب، والمهندس، والحرفي، للعمل فيها، وكثير من هؤلاء استوطنوا المدينة وأصبحوا من سكانها الدائمين.

النشأة والاسم

تقع الرقة، وهي مركز محافظة الرقة، شمال وسط سوريا على الضفة اليمنى لنهر الفرات، على بعد 200 كم شرق مدينة حلب.
التاريخ الأول لإنشاء مدينة الرقة يعود إلى عام 242 قبل الميلاد. وسميت في البداية كالينيكوس، نسبة إلى سلوقس الأول، مؤسس المدينة، الذي كان يعرف بهذا الاسم أيضاً. ويقول بعض المؤرخين إن الاسم يعود إلى الفيلسوف اليوناني كالينيكوس الذي يعتقد أنه توفي فيها.
في عام 639 للميلاد دخلتها جيوش المسلمين وتحولت تسميتها إلى الرقة.
والرقة مفرد جمعها رِقاق، وهي غضار الفيض الذي ينحسر عنه مفيض نهر الفرات فيجف تحت الشمس متشققاً إلى رقاق.
في عام 772 للميلاد، بدأ الخليفة العباسي المنصور ببناء عاصـــمة صيفية للدولة العباسية بالقرب من الـــرقة، سمـــيت الرافقـــة. وبنيت المدينة الجديدة على شكل حدوة فرس على الطراز المعــماري لبغداد، وسرعان ما اندمجت مع الرقة. وبين عامي 796 و808 للميلاد استعمل الخليفة العباسي هارون الرشيد الرقة عاصمة له، لتصبح المدينة مركزاً علمياً وثقافياً هاماً.
وفي عام 1258 دمرت جيوش هولاكو الرقة كما فعلت ببغداد.
سيطـــر عليهـــا الجيـــش الحر فـــي نهاية آذار/مـــارس عــام 2013، لتكون أول مركز محافظة تخرج عن سيطرة نظام بشار الأسد في سوريا.
وفي نهايات آب/اغسطس 2014 سيطر مقاتلو الدولة الإسلامية على مطار الطبقة العسكري، وهو آخر معقل للنظام في المحافظة، ورابع أكبر قاعدة جوية في سوريا، لتكون أول محافظة سورية تخرج بكامل مساحتها عن سيطرة نظام بشار الأسد.
تبلغ مساحة محافظة الرقة 19660 كم2، وعدد السكان حسب إحصائيات 2010 نحو 919 ألف نسمة، بمعدل كثافة يبلغ 47 نسمة/ كم2.
اكتشاف الرقة الحديثة

حين بدأت الرقة تعود إلى الحياة عام 1924 بعد قرون من خلوها من السكان، لم يكن يعرف ساكنوها آنذاك أهميتها التاريخية. في ما بعد، بينت الصور الجوية أن حدود المدينة القديمة ليست محصورة بأسوار الرافقة، بل تمتد شرقاً إلى تل البيعة، عند ملتقى نهري الفرات والبليخ. وفي عام 1926، كان عالم الآثار الألماني أولبرايت أول من مسح المنطقة أثرياً، وقام العالم مالوان عام 1938 بأسبار ودراسات أثرية كشفت معلومات علمية دقيقة عن تاريخ الرقة.
ودلت الحفريات في تل البيعة (5 كم شرق الرقة) في ثمانينيات القرن العشرين على موقع مملكة توتول التي كانت حاضرة في الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد.
لكن تاريخ الرقة يعود إلى الألف التاسعة قبل الميلاد، مع بناء أول مسكن في التاريخ في موقع تل المريبط الذي غمرته مياه بحيرة سد الفرات بعد بناء السد، وتؤرخ مساكن المريبط لأولى الأفكار الهندسية لتطور فن العمارة.

أعلام الرقة

أشهرهم البتاني، وهو أبو عبد الله البتاني (858 – 929)م، وُلد في بتان بإقليم حران، وكانت أسرته تدرّس الديانة الصابئية.
استوعب البتاني المؤلفات الفلكية المتوافرة في عصره، خصوصاً المجسطي لبطلميوس.
حقق البتاني إنجازات بارزة في علم الهيئة (الفلك)، بالإضافة إلى إنجازاته في العلوم الرياضية (حساب المثلثات، والجبر والهندسة) والجغرافيا. ونظراً لأهمية إنجازاته الفلكية، حاز لقب «بطليموس العرب». ويعرف في الغربباسمه المحرف «الباتيجنوس».
ومن الشعراء يعد ربيعة الرقي أحد أعلام الرقة الكبار، وهو ربيعة بن ثابت الأنصاري، الذي ولد وعاش في القرن الثاني الهجري.
قال عنه ابن المعتز: كان ربيعة أشعر غزلاً من أبي نواس. عاصر المهدي العباسي، ومدحه، وكان الرشيد يأنس به، وله معه ملَح كثيرة.
أما أشهر أعلام الرقة في العصر الحديث فهو الدكتور عبدالسلام العجيلي، الطبيب والشاعر والروائي، وأحد أبرز من كتب القصة القصيرة في اللغة العربية.

آثار الرقة

يبقى أكبر صروح الرقة هو نهر الفرات العظيم، سبب وجودها، وضامن استمرارها، فإليه يتوجه حنين أبناء المدينة وزوارها، وهو الملمح الجمالي الأبرز في مدينة بالكاد تحولت في العقود الثلاثة الماضية من قرية كبيرة إلى مدينة. الرقة عاشت بضعة عقود في عهد هارون الرشيد في مسار المدن المشعة، وبعد غزوات وزلازل طبيعية دخلت في سبات طويل.
والرقة عبارة عن متحف كبير، فأينما اتجهت في جهاتها الأربع تسير على طرق سهلية تنتشر إلى يمينك ويسارك تلال، وفي علم الآثار كل تل لابد أن حياة دبت فيه قبل قرون أو آلاف السنين. وتتنوع الآثار في الرقة بتوزعها زمنياً على العصر الآشوري وصولاً إلى العهود الإسلامية حتى العصر العباسي الثاني.

سور الرافقة

شيدت أسوار الرافقة بالآجر. وكان السور نفسه عبارة عن سورين تفصل بينهما قناة مائية تأتي من الفرات وتذهب إليه، ويحيط بالسور الخارجي خندق عند الضلع الجنوبي الذي كان محاذياً للنهر. يبلغ طول السور 5 كم، ويحيط بمساحة تقارب 5.1 مليون م2، وهو مدعم بالأبراج على امتداده. أعيد إنشاء الأبراج عام 1975 من قبل مديرية الآثار، وبخاصة التي تدعم السورين الشرقي والجنوبي. كان سمك السور الداخلي 8.5م، وللأسوار بابان كبيران، باب في الزاوية الجنوبية الغربية هو «باب الجنان»، وباب في الزاوية الجنوبية الشرقية هو «باب بغداد»، وهنالك بابان صغيران هما الباب الجنوبي والباب الغربي.

متحف الرقة

افتتح متحف الرقة عام 1981 في بناء السرايا القديم، الذي رممته المديرية العامة للآثار والمتاحف ليضم آثار محافظة الرقة التي كشفت عنها البعثات الأثرية المتعاقبة خلال العقود الماضية.
ويتألف المتحف من طابقين، وعند مدخله يشاهد الزائر لوحة فسيفسائية تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي عثر عليها في حويجة حلاوة في محافظة الرقة. وزُيِّن بهو المتحف في الطابق الأرضي بلوحات فوتوغرافية لأهم مواقع الآثار في سوريا. وخصص الطابق الأرضي للآثار القديمة. كذلك يضم الطابق جناح الآثار التي تعود إلى العصور الرومانية والبيزنطية، إضافة إلى جناح للفن الحديث.
أما الطابق الأول فخصص للعصور العربية الإسلامية، ومنها خزف الرقة، وزخارف قصور الرقة الداخلية، وهي إطارات جصية بارزة وتيجان وعقود حجرية وجرار فخارية. وفي الطابق نفسه قسم يعرض التقاليد الشعبية في الرقة.
واشتهرت الرقة بصناعة الخزف، وفي المتحف الوطني في دمشق نماذج منه تعادل أهميتها خزف الرصافة، وبخاصة الخزف الذي يتصف ببريق معدني.

جامع المنصور

يرتبط تاريخ بناء مسجد المنصور، أو الجامع العتيق حسب التسمية المحلية، بتاريخ بناء الرافقة، حيث اعتمد في نظام عمارة الرافقة المخطط الدائري لمدينة بغداد، وحدد موقع المسجد الجامع وقصر الإمارة وسط تلك الدائرة. وجامع المنصور في الرقة مؤلف من صحن وحرم على غرار الجامع الأموي في دمشق، وهو مستطيل عرضه 92م، وهو طول جدار القبلة، وطوله 108م، ويقوم الحرم في الجهة الجنوبية بعمق 30م، وله سقف جملوني محمول على صفين من الأعمدة عددها 14 عموداً في كل صف، مشكلاً بذلك ثلاثة أجنحة عرضية. أما واجهة الحرم المطلة على الصحن فتتألف من إحدى عشرة فتحة مقوسة أبعادها الوسطية 3.56م عرضاً، و10.5م ارتفاعاً.

قصر البنات

يقع قصر البنات جنوب شرق الرافقة، وضمن أسوارها. ودلت الخزفيات التي عثر عليها فيه أنه يعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي، أي إلى عهد الدولة الأيوبية، وهذا يؤكد ما جاء على لسان المؤرخين من أن هذا القصر لم يُسكن بعد العصر الأيوبي. ويتألف القصر من باحة مركزية تطل عليها أربعة أواوين. يقع مدخله الرئيس في الجنوب، تقابله في أقصى الشمال صالة خلفها حجرة، وإلى جانبيها حجرتان، وتطل الصالة على باحة ورواقين. ويمتد القصر شرقاً وغرباً تحت الشوارع القائمة، ولهذا لم تكتمل عمليات الكشف عن كل أقسامه.
قصر هرقلة

يقع قصر هرقلة الذي أنشئ تخليداً لذكرى الانتصار الكبير على الروم، وفتح وتحرير مدينة هرقلة، على بعد 7 كم غرب الرقة. أنشأه هارون الرشيد بعد أن فتح مدينة هرقلة منتصراً على نقفور. وبناء هذا القصر غريب بتميزه، وقد لا يكون قصراً، وإنما مجرد آبدة تذكارية.

قلعة جعبر

تقع قلعة جعبر على الضفة اليسرى لنهر الفرات على بعد خمسين كيلومتراً من الرقة. وتقوم القلعة على هضبة مشرفة على بحيرة سد الفرات. لها سوران يضمان 35 برجاً دفاعياً، بعضها مضلع، وبعضها نصف دائري، لكن أكثرها مهدم، أو زائل. تنسب القلعة إلى جعبر القشيري، وأخذها منه السلطان السلجوقي ملكشاه بن ألب أرسلان عام 986م. ويقال إن القلعة نفسها شُيِّدت على أنقاض قلعة أنشأها دوسر، غلام النعمان بن المنذر، ملك الحيرة، قبل الإسلام.

الرصافة

تبعد الرصافة عن الرقة 30 كيلومتراً إلى الجنوب. وكان لها تاريخ عريق امتد في عهد الـــدولة الآشـــورية ومن ثم الـــيونانية، فالفارسية. وأضحت لها قلاع منيعة تحميها من غزوات الساسانيين الفرس، قبل أن تصبح من المدن التابعة لمملكة تدمر، التي امتدت من غرب ليبيا إلى الخليج شرقاً.
يقول عنها بشير زهدي في كتابه «الرصافة لؤلؤة بادية الشام»: (… إذا كان يُنسب إلى الحارث الثاني الفضل في ترميم الأسوار، وتشييد كاتدرائية كبيرة في الرصافة في العصر البيزنطي، فإنه يُنسب إلى ابنه المنذر بن الحارث الثاني الفضل بتشييد خزانات المياه فيها، وببناء قصر كبير له، ودار للضيافة خارج سورها الشمالي تثير ضخامتها شعور الاحترام لهيبته لدى رجال القبائل…).
وأضحت الرصافة في عهد الأمويين منتجعاً صيفياً، فانتقل إليها الأمير هشام بن عبدالملك من قصر الحير، وأسهم في عمرانها وازدهارها، فعُرفت بعدها باسم «رصافة هشام».
بعد نهاية حكـــم الأمـــويين في ســوريا، استمرت الرصافة في ازدهارها حتى بداية القرن العاشر الميلادي، وعاش فيها المسيحيون والمسلمون، بدليل اكتشاف أنقاض كنائس فيها، ومسجد له محرابان باتجاه الجنوب، وشارع مستطيل محاط بأعمدة، وقد هُدمت إبان غزوات التتار كلياً.

٭ كاتب وصحافي سوري

علي العائد

المصدر القدس العربي 

Founder of Raqqa is being slaughtered silently, journalist featured in film "City of Ghosts".