اغتصاب الأولاد: فصلٌ من دين داعش

لم أبذل جهداً كبيراً مع الأستاذ أحمد، المحامي الأكثر شهرة في الرقة، في ترتيب  لقاءٍ  مع ابنته وحفيده البكر ذي الأربعة عشر ربيعاً، الولد الذي عاد بعد ما يقارب ثلاثة أشهر قضاها في معسكرات «العكيرشي، وأسامة بن لادن، وأشبال الخلافة، وأشبال الزرقاوي»، لتجنيد الأطفال واليافعين في الرقة من أجل داعش.

من اعترض وأتعبني وأتعب الأستاذ أحمد معي كانت أم بِشر، طبيبة الأسنان، وأم التوأمين بِشر وبراء، وأرملة المهندس مالك الذي قُتل بقصفٍ لطيران النظام على الرقة.

برّرتْ رفضها بالوعود التي قطعتها لمن ساعدها باستعادة بِشر، وخوفها على ولديها التوأم. ولكن بعد جهدٍ واستهلاك ركوتين من القهوة وعلبة سجائر، استطعنا أن نقنع أم بشر بأن نُخرِج هذه القصة للعلن حتى يتنبّه الأهل، وحتى يعرف العالم ما الذي يحدث في هذه المعسكرات، وما يفعله المجرمون بأطفالنا.

ولكن بعد ذلك اكتشفتُ السبب الحقيقي لرفضها: لقد اغتصبوا بِشر! قالتها متفجّرة بصراخ هستيري: «خلي كل العالم تعرف ما عاد أتحمل، لن أخفي الأمر أكثر من ذلك».

بدأت المرأة متوسطة العمر تلقي اللوم على البشرية كلها، وعلى الدين، والتنظيم (داعش)، والنظام، وعلى نفسها، وتُنفِّس عن غضبها بصراخٍ ودموع. لا أعتقد أن هناك موقفاً أصعب من أن تضع نفسك مكانها وهي تتحدث عن اغتصاب ابنها، وأن تتخيل طفلك مكانه.

خَجِلتُ من «إنسانيتي».

حضنها والدُها وهي تنشج، حاولتُ الانسحاب، ولكنها مسحت دموعها، وقالت بشجاعة: «اجلسْ، ويجب أن يُفتَح هذا الصندوق. أنا أيضاً أريد أن أرتاح وأن أوصل رسالة بِشر، وليكن ما يكون. ليس عاراً اغتصابه، لقد اغتصبوا البلد كله بل لقد اغتصبوا الإنسانية كلها، وفي الحقيقة لا أريد لبِشرٍ آخر يتعرض لما تعرض له ابني!».

ركوة القهوة الثالثة في غرفة واسعة حسنة الترتيب ذات أثاثٍ ينم عن يُسرِ حال، اكتملت جلستنا وسط ترقب من قبلي وهدوء عميق من قبل الأستاذ أحمد، وألبوم صور بين يدي أم بِشر. تقلب صفحاته وسط شلال دموع، سمراءُ فراتية ذات قوام ممتلئ بلا سمنة، عمرها 47 سنة.

بِشر وتوأمه ووالدي، وأشارت إلى الأستاذ أحمد، هم كل ما بقي لي.

تزوجتُ عام 1999 من مالك الذي يكبرني بثلاث سنوات، كانت الحياة تبتسم لنا فأنا عندي عيادتي التي اشتراها لي والدي، وأثّثها. ومالك زوجي كان موظفاً، يملك أيضاً معرضاً لبيع أجهزة الكمبيوتر وملحقاته وصيانته. كانت عندي سيارتي الخاصة، وهو كذلك،  وبيتٌ في حي الثكنة الراقي. كنتُ وحيدة أهلي في الرقة، وأخواي يعيشان في أوكرانيا حيث ذهبا للدراسة، وهناك استقرّا وأسّسا أعمالاً وحياة.

رُزقنا بتوأمنا الأول، وكرَّسنا كل حياتنا لهما، وهكذا استمرت حياتنا حتى 2011.

ولتأثري الشديد أنا ومالك بمواقف أبي كان اصطفافنا مع الثورة منذ بدايتها، وكنا من الداعمين الأوائل لها، خصوصاً في موضوع المعتقلين الذين لا يملكون ثمن توكيل محامي حيث تطوع والدي كما كثيرٌ من أصدقائه للدفاع عنهم، وكان جزءاً من دورنا هو كفالة عائلاتهم.

قام طيران النظام يوم 29/9/2013 بقصف مدرسة ابن طفيل في الرقة، وكان مالك يمر من هناك مصادفة، فاستشهد مع 16 طالب ثانوية، وفي الشهر نفسه توفيت والدتي، لكَ أن تتخيل تبدّل حالنا.

حالنا كحالِ أهالي الرقة الذين لم يطيقوا العيش في ظل تنظيم الدولة، والدي يعدّ مرتداً بنظرهم، وهو الذي تملص من كل الدورات الشرعية بحججٍ وضعت عند اسمه إشارات استفهام، وأنا منعوني من معالجة الرجال وهم أغلب زبائني، وغير مسموحٍ لي قيادة السيارة، ولذلك تكفل والدي بكل مشاورينا وأعمالنا. وأيضا أغلق التنظيم المدارس، ونشر الخيم الدعوية والدورات الدينية للأطفال في المساجد، حيث يقومون باصطياد ضحاياهم من الأطفال. وهي الطريقة الأسهل للوصول إلى الجيل القادم، وهنا قررنا الخروج من الرقة إلى تركيا في حزيران 2014، ومن يومها استقرّينا في مدينة أورفا في هذا البيت.

كان التوأمان في سن الرابعة عشر، وفرنا لهما هنا، جدهما وأنا، كل ما يلزم لمحو ذكرياتهما عن فترة السواد التي مروا بها.

كان بِشر «دلّول» جده، وكان متفوقاً في مدرسته، والأول بالانكليزية والرياضيات، والحاسوب الأحبّ إلى قلبه، وهي الموهبة التي اكتسبها من والده، حيث يقوم بفكّ الحاسوب قطعة قطعة ولديه القدرة على اختراق الحسابات والحصول على أي كلمة سر، ويستطيع تهكير أي حساب، وهو ما كان والده يفتخر به رغم اعتراضي على ذلك.

هو يحب ويمارس كرة اليد، وكذلك أورثه جده عشق «الموليّا» والضرب على الدف، وكان صوته عذبا شجياً عكس أخيه الذي يكره الغناء ويحب القراءة، ويكره الحاسوب والألعاب الإلكترونية.

بدايةً لم أنتبه لتبدل سلوك بِشر، أصبح يغلق الباب على نفسه لساعات طويلة واضعاً «اللابتوب» في حضنه. تدخلتُ بالموضوع أكثر من مرة عندما كان يتناهى إلى سمعي صوت أناشيد «الدولة» (داعش) التي تنساب من حاسوبه، ولكنه أقنعني وجدّه أن الأمر مجرد فضول.

بدأ بِشر يصلي، وأيضا جدّه منعني من التعليق على الوضع الجديد قائلاً: «ابنك مربى كويس، خليه يجرب». شغلت بالي التطورات التي طرأت عليه، وبدأ هو يتدخل بلباسي، وبتصرفات جده، وحتى أنه كسر الدف الذي كان يدق عليه مع الغناء، وحاول فرض طريقته على أخيه.

حاولتُ أكثر من مرة، عندما يكون بالحمام أو نائماً، أن أدخل على حاسوبه، ولكنني فشلت. عرف ذلك، وبحركة مفاجئة فتح لي حاسوبه وحسابه الشخصي على فيس بوك، قرأته كلمة كلمة، تفحصتُ رسائله، خجلتُ واعتذرتُ منه، ولكن أخاه وشى لي بأن بِشر لديه حسابات أخرى وبأسماء وهمية، وله أصدقاء كثرٌ بلحىً مثل لحى الدواعش.

حذّرته من هولاء الغربان السود، ولكنني سمعت منه كلاماً أرعبني عن العزة والجهاد والجنة والحواري.

– «ولكن عمرك لا يسمح، أكمل دراستك وبعدها لكل حادث حديث».

عادَ وصعقني بقوله: «تعرفين إنو الرسول أمّر أسامة بن زيد على جيش المسلمين وهو في ال 16 من عمره؟».

استنجدت بأبي الذي قال اتركيه لي، وبدأ بخطة: يومياً يأخذه مشوار بالسيارة، بل وأخذه بالطائرة إلى اسطنبول ومرسين. أوقفتُ شبكة النت في البيت، ولكنه كان مخترقاً شبكات «واي فاي» الجيران.

ذات صباح لن أنساه ما حييت أيقظني براء: «ماما…ماما… بِشر مو موجود بالبيت!».

كان صباح 30/9/2014، ركضتُ كالمجنونة بثياب النوم دون وعيٍ إلى الشارع وكأنني سأراه مقبلاً من أحد طرفي الشارع. صدمَ منظري المارين بالشارع، وصدمتني نظراتهم. عدتُ إلى البيت، وكان والدي يحاول أن يفهم الموضوع من براء.

تكلمتُ معه رشاً بجملٍ غير مترابطة وبصراخ.

صفعني أبي أول مرة في حياته وبكل قوة وقعت على الأرض، فحملني من تحت إبطي إلى غرفة الجلوس.

– «خلينا نفكر».

لبسَ ثيابه وبدأ يتصل بكل المعارف دون جدوى، تعاطفَ معنا كثيرٌ من الأقارب والمعارف، وحضروا إلى بيتنا. ذهبت ووالدي مع أحد أصدقائنا إلى الكراجات، وهناك تعرف على صورته أحد سائقي «الدلمش»، وهو باصٌ متوسط لنقل الركاب، وقال إنه نقله إلى مدينة أقجه قلعة منذ أكثر من ثلاث ساعات، وأنه نزل قرب من البوابة الحدودية حيث صافح شخصين من عمره وثالثاً كهلاً.

اغتصاب الأولاد: فصلٌ من دين داعش

هي 60 كم المسافة بين مدينة أورفة وأقجة قلعة، وسرعة السيارة تتجاوز الـ 100 كم، ولكن هذا الطريق لا ينتهي، وكنا قد أخذنا صاحب الباص الصغير معنا، بحثنا ولم نجد. أوصلنا سائق الباص إلى كل المهربين الذين يعرفهم، والذين أوصلونا بدورهم إلى مهربين جدد، والذين أوصلونا إلى مهربين آخرين، ولكن لم يتعرف أحد على صورة بِشر.

قصدنا مخفر البلدة، نظموا ضبطاً وأرفقوا به صورة بشر، وعدنا آخر الليل منهكين يائسين.

فتشت ثيابه وخزانته وكاميرته وحاسوبه وتحت سريره، ولكن عبثاً، لم أجد أي شيء. فتحت حسابي على الفيس بوك وعلى السكايب والواتس أب على الجوال، وكذلك فعل جده وأخوه. كانت أنظارنا شاخصة مستجدية، هذه الأجهزة الجامدة! وكلما جاء اتصال نقفز كلنا، كانوا أصدقاءاً وأقارباً يتفقدوننا. غفا براء أولاً، ثم أبي، ولا أدري متى غفوت. أيقظني براء، كانت رسالة على جواله بالواتس أب: ماما سامحيني، أنا وصلت أرض الخلافة، الجهاد يناديني، سأنتقم لأبي ولكل الشهداء، لا أحد معنا سوى الدولة الإسلامية!

عبثاً أن يردَّ أحدٌ على آلاف الرسائل التي أرسلتها على ذات الرقم، بقيت الشاشة تقول: «آخر ظهور 9:45 صباح 1/10/2014».

تناقشتُ ووالدي كثيراً حول ما يمكن عمله. كان لدي قرارٌ واحد، أنني سأذهب إلى هناك ولو اقتضى الأمر أن أصل إلى البغدادي نفسه، طبعاً والدي لا يستطيع الذهاب.

وهكذا تمّ، اتصل والدي بعددٍ من الأصدقاء، ممن بقوا في الرقة، وحوّل مبالغ من المال إلى أكثر من محل تحويل. كل المبالغ كانت بأسماء نساء، حيث هناك دائماً مراقبة لعمل مكاتب تحويل الأموال بالرقة، وهم يشكّون بأي مبلغ كبير، ويتم اعتقال صاحبه لمعرفة مصدر المال. أوصلني هو وبراء وأحد الأقارب إلى نقطة على الحدود تسمى «العلة»، شرقي مدينة أقجة قلعة. ومنها دخلت بعد أن تفقد المهرب «لباسنا الشرعي»، أنا وثلاث نساء. كانت وجهتنا جميعاً الرقة المدينة، وكان المهرب قد رتّب كل شيء حتى السيارة على الطرف الآخر التي أقلتنا إلى المدينة. نعم… فهي تجارة رائجة.

هناك لم أتعرف على المدينة، ولا حتى على الشارع الذي فيه عيادتي، حيث مرت السيارة، وحيث بحساب الزمن، ليس بذاك الزمن البعيد عندما غادرنا المدينة. كانت كئيبةً ومتشحة بالسواد.

أوصلتني السيارة إلى منزل أحد أصدقاء والدي، وهو أحد وجهاء العشائر، ويتمتع بنفوذٍ جيد ومعارفَ لدى تنظيم الدولة. برّر لي ذلك: «من أجل ابنك وكثيرين من أمثاله يجب أن أكون قريباً منهم»، هذه أول مرة اعذر في سرّي أحداً قريباً منهم.

استعجلته أن نذهب وقتها، ولكنه قال: «غداً صباحاً. الآن لا نستفيد شيئاً، لن نجد أحداً»، وهكذا كان. في الصباح توجهنا إلى الملعب البلدي، ومن هناك أحالونا إلى مدرسة معاوية، حيث قابلنا شخصاً ذا كرشٍ كبيرة، ولهجته خليجية. استهجن على مرافقي الحديث بهذه القضية، وبعد حديث طويل تخلّله محادثة هامسة في أذنه من صديق والدي، بحث ذو الكرش الكبيرة في سجل ضخم أمامه، وأنكر وجود بِشر، فحين يلتحق أحد يطلقون عليه لقباً أو كنية، ولا أسماء حقيقية عندهم.

– «تريدون أن تخطفوا أطفالنا بهذه الحجة؟ لا لا لا أقبل!».

– «اخفضي صوتك يا امرأة. صوتك عورة ولا يجوز سماعها!»، قالها صاحب الكرش.

فأشار لي صديق أبي بالصمت، وبالخروج من المكتب ولحقني بعد قليل: يقولون إنه في تل أبيض، كان جوابه قبل أن أسأله، تل أبيض التي أتيتِ منها البارحة. توجهنا بسيارته إلى تل أبيض، وكان واضحا نفوذه من خلال تصريح المرور الذي مررنا به من جميع الحواجز.

وصلنا مخفراً صغيراً على أطراف مدينة تل أبيض، قال لي: «هذا هو المقر، ابقي في السيارة ريثما أعود»، وعندما عاد قال: «المعسكر في قرية المشرفة في مدرسة الزراعة، شرقي المدينة بستة كيلومترات، ولكنهم ليسوا هناك لقد نقلوهم، واليوم طيران التحالف قصف المدرسة». أُغمي علي لثوانٍ، ولكنني تذكرت وعدي لنفسي ولأبي أن أكون قوية. قلت إنني سأذهب إلى هناك، وفعلاً. كانت المدرسة مدمرةً، فتشت بين الأنقاض وبقايا البناء شبراً شبراً، ولكني لم ألحظ آثار دماء. جاء أحدهم وأعطى صديق والدي ورقة مسحوبة على آلة تصوير فيها صورة بِشر، قال إنهم في مقر اللواء 93 ببلدة عين عيسى، جنوب غرب تل أبيض 50 كم. قال صديق الوالد إننا سنذهب غداً، ولكني ألححت على أن نذهب الآن. رضخَ لطلبي. وصلنا قبل الغروب بقليل، وهناك كان أبو البراء التونسي، الذي قدم لنا محاضرة عن الجهاد بالمال والنفس والأبناء.

– «خذيني مثلاً يا أختاه! كنت أعيش في بلجيكا. تركتها وجئت صوناً لعرضك وعرض المسلمات مثلك!».

– «يا شيخي، أريد ابني الذي لا يزال طفلاً».

– «هو ليس موجود هنا»، أجاب.

– «يا شيخي فقط أراه لدقيقه واحدة، هو لازال قاصراً».

– «ليس عندنا»، قالها واقفاً. «هيا اذهبوا من هنا!».

– «لن اذهب دون ابني»، وتربعت على الأرض.

ضربَ بكل توسلاتي عرض الحائط، ولكنني أيضاً رفضتُ أن أتزحزح من مكاني.

كان واضحاً أنني أربكته، فقررت أن انتقل إلى الهجوم. «أريد ابني ولن أتحرك حتى آخذه معي».

«لن أسمح لكم بأن تكتبوا على هذه الصفحة البيضاء بحبركم الأسود أو بالدم»، هذه قلتها في نفسي.

– «يا شيخ تجنيد الأطفال حرام، وترفضه كل القوانين الدولية، ودون موافقة الأهل واستشارتهم يعتبر جريمة خطف». ما إن أنهيت جملتي حتى ركبه عشرون عفريتاً، وبسرعة استل سكيناً من وسطه ووضعها على رقبتي: «لم أذبح امرأة قبل، ولكن في المرة القادمة التي أراكِ فيها ستكونين الأولى»، ورفسني في خاصرتي مما جعلني أستفرغُ ما بمعدتي على سجادته، ثم رفسني على رأسي وجرني من شعري وكان عدد من الملثمين قد التموا على صياحه، «من يراها منكم ولا يذبحها سأذبحه بيدي!».

عدنا إلى الرقة وأنا محطمة مكسورة، ولكنني غير يائسة.

عدتُ صباح اليوم التالي وحيدةً، ولكنهم منعوني من الدخول إلى البلدة نهائياً. تسعةُ أيام على هذا المنوال، واعتذرَ مني مرافقي، صديق أبي: «طلبوا مني أن أبتعد عن الموضوع، وهم يحذرونك أنتِ أيضاً».

– «عمي، لن أذهب دون ابني».

توالت أيامٌ أخرى، أكثر من شهر، ثم شهرٌ آخر. ألِفوا وجهي في كل مكان، من الطبقة غربي المدينة 50 كم، إلى العكيرشي شرقي المدينة، ومن تل أبيض على الحدود شمالاً، إلى السِّحْل (حيث بيت أبو لقمان، الوالي) جنوباً. عرفتُ بيوت كثيرٍ من العناصر والأمنيين والقادة، ترجيتُ نساءهم وأخواتهم وأمهاتهم، وعرفتني كل «حوريات» كتيبة الخنساء اللاتي أوقفنني مرتين. عرفتني الحواجز والمقرات، ولكني لم أيأس.

وفي صباح اليوم الثالث عشر بعد الشهرين، جاءت دورية الخنساء وأخذتني إلى النقطة 11. وهناك في غرفة كبيرة، يتوسطها مكتب ضخم، يجلس خلفه مقنعٌ وعلى يساره ويمينه ملثمون كثر، بدأ حديثه فوراً.

– «سنعطيك ابنك ولكن هناك مصاريف كثيرة ترتبت عليه».

– أجبته دون تفكير: أنا جاهزة.

– «خمسون ألفاً»، قال.

مددتُ يدي فوراً إلى حقيبتي وأخرجت النقود، وقهقه الجميع.

– «يا أختي، خمسون ألف دولار!».

وأيضاً دون تفكير قلت له سأدفع، ولكن أريد أن أرى ابني أولاً.

– «الدفع أولاً!».

التقطَ من سطح الطاولة «آيباد» وشغله، ومرره لي عن طريق إحدى حواري الخنساء، لم أتمكن من الرؤية جيداً بسبب النقاب ودموعي. كان هو ابني بِشر، ألقيتُ النقاب عن وجهي وأخذت أقبله على الشاشة، فأداروا وجوههم عني. وجهي عورة، أما نهب 50 ألف دولار كفدية خطف مسألة فيها وجهة نظر. وهنا جرتني «حورية» الخنساء وغطت وجهي.

بعت عيادتي وبيتي وسيارتي، وساعدني أخواي ووالدي. 11 يوماً وكان المبلغ جاهزاً. نقلوني إلى تل أبيض بسيارة حوريات الخنساء، وقالوا لي هناك ستستلمينه عند الحدود. وهناك أنزلوني وفتحوا صندوق السيارة وأخرجوه. كان ابني معي في صندوق السيارة طول الطريق، ولا أدري.

ألقى بنفسه عليّ، لم أبكِ، شممته وضممته لا أدري كم من الوقت. قبلته من عيونه، من قلبه، من يديه. دوّرته ودرت حوله، تفقدته. كان هو بِشر، ولكن لا بريق في عينيه.

عبرنا الحدود، لم أتكلم معه كلمة واحدة.

بدءاً من هذه اللحظة هو من تكلم، وسيتكلم وستسمع منه.

* * *

ما يميز بِشر عن أقرانه وجهه الذي يوحي بعمر أكبر من عمره الحقيقي، شاحبٌ ومسحة حزن في عينيه مع انكسارٍ واضح. لن أعيب عليه تلعثمه في الكلام، الذي كما تقول والدته لم يكن لديه قبلاً. شجّعته والدته على أن يتكلم، وواضحٌ أيضاً كان رجاؤه لها بعينيه الغائرتين المنكسرتين بأن لا تفعل. تعاطفتُ معه، ولكن أمه أقنعتني أنه يجب أن يواجه مشكلته، وجزء من مواجهتها أن يتكلم عنها.

– «كان سامر، صديقي الأقرب، يتواصل مع موقعٍ يهتم بأحدث برامج الكمبيوتر والهاكرز، عرَّفني سامر عليهم وانشؤوا مجموعة. كانوا يعطوننا روابط مجانية، وأحدث الألعاب. وبعدين صار يعملو لنا تحديات على بعض البرامج. كنت وسامر عقولنا مركبة من رامات وذواكر أكبر من ذاكرة أي كمبيوتر، وكنّا دائماً المميزين في المجموعة، وكانت تصلنا جوائز رصيدٍ مجاني وحصلنا أيضاً على «تاب آبل» رائع استلمناه من هون. وبعدها أعطونا حسابات على الفيس بوك وعلى تويتر، أنا باسم أبو الشهيد وسامر باسم أبو الحذيفة، وطلبوا منا أن لا نغير كلمة المرور وأن نقوم بمسح كل ما يأتي أو يرسل على هذه الحسابات بعد الاستماع أو القراءة أو المشاهدة. بعدين بدأت تصلنا أفلام قصيرة لا تتعدى دقيقة أو دقيقة ونصف عن أشخاص ملثمين، أبطالٌ خارقون يرفعون الظلم ويساعدون الفقراء. ثم بدأت تصلني أفلامٌ عن الشهداء، وحتى أن أحدها عن والدي. تطور الأمر إلى مقاطع صوتية لشخص عذب الصوت، كلامه قريب من القلب ولغته بسيطة وسهلة وواضحة، تدعو إلى الجهاد والإسلام ورفع الظلم».

لا أنكر أنني تأثرت، وبدأوا هم يزيدون من عدد الرسائل الصوتية والفيديوهات وأيضاً مستوى الكلام ليصل إلى الدعوة للانتقام من المجرمين الذين قتلوا أبي.

أول مرة أسمع أحداً يهتم بأمر أبي عدا أمي، ويدعوني للانتقام له. في الحقيقة أوصلوني إلى مرحلة باد فيها بالنسبة لي كما لو أن أحداً لم يستشهد غير أبي، ولأنني سأكون شخصاً عاجزاً وجباناً إذا لم أنتقم له. استفزوا كثيراً من الأمور في داخلي، وأدخلوني في لعبة إلكترونية تحاكي القصف الذي استشهد فيه والدي. ومن ثم صار عندي عفوياً طريقان، أحدهما الوضع الذي نحن فيه، والآخر طريق البطولة. والبطل من المفترض أنه أنا، أقوم بإسقاط الطائرات، وقتل الجنود. كانت اللعبة رهيبة جداً، ومن ثلاث مراحل. بسهولة وصلت لمستواها الثالث، حيث يقوم البطل في النهاية بتثبيت الراية الكبيرة السوداء في مدينة روما.

بدأت أُغلق الباب على نفسي وأنتظر الجديد، وعندما يتأخرون على الموعد أتحول لشخص آخر!

تدخلت أمُه هنا: «هذا يشبه مرحلة الإدمان على المخدرات». وتدخلتُ أنا مقترحاً استراحةً، وقبل أن أنهي جملتي كان بِشر خارج الغرفة، ولكن أمه أرجعته قائلة بحزم: «بِشر، نحنا اتفقنا».

تابع بِشر بعد أن انهينا وجبة الطعام التي كان الجد قد طلبها من أحد المطاعم:

وهكذا إلى أن طلب أحدهم مني ومن سامر أن ننتقل إلى أقجة قلعة، وأن لا نأخذ معنا أي شيء، وأن ننظف أجهزتنا من أي شيء يمكن أن نكون قد نسيناه. تسللتُ من البيت وأخذتُ تكسي إلى الكراج، وهناك التقيت سامر، ووصلنا بالدلمش إلى أقجة قلعة، وهناك التقينا شخصاً عرّف عن نفسه بأنه أبو إسلام الرقاوي، وشاباً آخر من جيلنا سمّاه أبا الفاروق. وبأسهل من الدخول إلى بيوتنا عبرنا الحدود، نحن الأربعة.

بدايةً نقلتنا سيارة بيك آب إلى مدينة تل أبيض، ودخلنا إلى مكانٍ توجد فيه يافطةٌ مكتوبٌ عليها «مخبر العلا للتحاليل الطبية». هناك في إحدى الغرف تم تفتيشنا بعد أن خلعنا ثيابنا تماماً، ثم أعطونا ملابس جديدة تشبه الملابس في الأفلام التي كانت تصلنا، ثم صورونا وبصمنا على ملفٍ من ثلاث أوراق. وكان من بين الأسئلة: ما المهمة التي تريد أن تكلف بها؟ وتحتها عدة خيارات: استشهادي، وتحتها عدة خيارات؛ انغماسي، وتحتها عدة خيارات؛ مقاتل، وتحتها عدة خيارات أيضاً؛ إلكتروني، وتحتها عدة خيارات. جميعها مكتوبة بالعربية والانكليزية.

– «ما هي الخيارات الفرعية؟»، سألته مستفهماً إن كان قد قرأها.

لم أقرأها كلها، ولكن تحت كلمة استشهادي مثلاً قرأت عدة خيارات: دكمة، ناسف، مفخخة…

– «ممكن تشرحلي المسميات؟»، سألته، فابتسم من جهلنا التفريق بين هذه المسميات.

الدكمة: هل تريد أن تكون قائد دكمة، وهي السيارة الشاحنة التي تُفخّخ؟ ودكمة تعني الأشياء غير المعبأة في عبوات.

ناسف: هل تريد أن تفجر نفسك بحزام ناسف ضمن التجمعات المعادية التي تحدد لك؟

مفخخة: هي السيارة السياحية التي تُفخّخ، ويجب أن تضعها في المكان المطلوب، وهناك أيضاً من هذه نوعان: اقتحامي، ورَكن.

نُقِلنا بعد ذلك بسيارة مغلقة إلى «معسكر  الزرقاوي» في مدرسة الزراعة بقرية مشرفة الشيخ أحمد شرقي تل أبيض 6 كم، كان قبلنا 63 شخصاً من فئتنا العمرية، وأكثر من 50 شخصاً أكبر سناً. بقينا خمسة أيام هناك، وكل ما كُنّا نقوم به هو فقط لعب وأكل ونوم ودروس تعليم الصلاة.

في اليوم السادس تم نقلنا صباحاً إلى معسكر «أشبال الزرقاوي» في مقر اللواء 93 ببلدة عين عيسى.

هناك كُنّا 89 شخصاً، تم توزيعنا إلى ثلاث فئات عمرية من 11 إلى 13، من 14 إلى 15، ومن 16 إلى 18. كان لكل مجموعة أميرها وشيخها ودَعَويًّها، وأيضاً مهاجعها وغرف تدريسها، وكان أمير الجميع أبو البراء التونسي.

بدايةً خضعنا لدورة شرعية مكثفة لمدة عشرين يوماً، 14 ساعة يومياً تتضمن العقيدة الإسلامية الصحيحة، ونواقض الإسلام، وأصول الجهاد وأحكامه. كان هناك تقييم يومي، وفي اليوم التالي صباحاً وفي الاجتماع العام يتم تكريم المميزين بمبالغ ماليه بين 50 دولار إلى 100 دولار.

أنهينا الدورة الشرعية وتم نقلي و14 آخرين إلى الرقة المدينة، وهناك تم فرزي و9 آخرين إلى معسكر «أشبال الخلافة» بالعكيرشي، حوالي 35 كم شرقي المدينة. هناك كان كل شيء يختلف من الأكل إلى الشرب إلى أماكن النوم إلى المعدات.

فور دخولنا كان هناك الأمير أبو عبد الله الكويتي الذي استقبلنا بمكتبه، وقال إننا مميزون وسننضم لمميزين، وأهدى كل واحدٍ منا جهاز تلفون سامسونج جالاكسي اس4 و500دولار.

كُنّا 650 متدرباً 490 من الأنصار، يعني من أهل البلد، والباقي من أبناء المهاجرين.

الأسبوع الأول: دروس عقيدة وجهاد وتدريب بدني فقط، ولمدة 16 ساعة يومياً، يبقى ذهنك مشغولا دائما بالتقييم.

– «ماهو التقييم؟»، سألته.

تقييم اليوم نتائجه غداً صباحاً، حيث يُذاع الاسم وتوزّع الهدايا والمبالغ النقدية التي أقلّها 50 دولار، وأكثرها 250 دولار. ولكن هي هنا ليست كاش وإنما قسائم يسمونها هناك شيكات، ويحصل عليها المتميزون بالحفظ والرياضة.

في الأسبوع الثاني تم تقسيمنا إلى كتائب.

كتيبة الإلكترون، ومهمتها التجسس على محلات النت واختراق الأجهزة والاختلاط مع رواد مقاهي النت والتنصت على رسائل السكايب والرسائل الأخرى وتسجيلها.

كتيبة اللواصق، مهمتها التسلل بين المدنيين وزرع العبوات اللاصقة على السيارات أو البيوت أو المحلات.

كتيبة الاستشهاديين، وأكثريتها من الفئة العمرية الثالثة، وكثيرٌ من منتسبيها يعانون من إعاقات ذهنية.

كتيبة الخطف «التشويل»، ومهمتها التدرب على الخطف والتخدير والإخفاء.

كتيبة الاقتحام «الانغماسيين»، وهي الأصعب تدريباً والتي يختار لها المتفوقون في الأداء البدني والرياضة.

كتيبة الكواتم، ومهمتها التدرب على القتل بواسطة المسدسات المزودة بكاتم صوت.

كنت في الكتيبة الأولى وكذلك سامر، وكان دعوي كتيبتنا أبو الزهراء السعودي، وكانت عنده قدرة رهيبة على الإقناع، ويتحكم بطبقات صوته بطريقة تجعلك تكون «بنص الحدث وتعيشهُ». كان يقول: «نحن الفرقة الناجية في الإسلام، لم نأت عبثاً، الله هو من اختارنا أعضاء للتنظيم، الباقي كلهم كفرة ومرتدون وضالون، وعلى أكتافنا هدايتهم وبكل السبل وأولها السلاح»!

مساء يومٍ من الأسبوع الثالث دُعيت إلى مكتب أبو عبد الله الكويتي، وهو أمير وآمر المعسكر. ذُهلت وأنا أراه يدخن الأركيلة، ولكنه أشار لي أن أجلس بجانبه على كنبة كبيرة من الجلد.

بدايةً رحّب بي وأثنى على تفوقي، وطلب رأيي ببندقية روسية قصيرة أخرجها من صندوق خشبي. تمثلتها كما الخبير، وقلت له: «كويسة». قال: وصلتك!

ومدّ لي خرطوم النرجيلة التي كنت قد جربتها سابقاً مع أصدقاء عندما كنت في أورفة، أعجبته طريقة نفخي للدخان، وبدأتُ أتفنن. لم تمضِ سوى دقائق حتى بدأت أحسّ أن رأسي يدور ونظري يزوغ. اقترب مني أبو عبد الله، وبدأ يتحسسني، ويمد يده تحت ثيابي. أعتقد أنني قلت: «أريد أمي». جاوبني: أنا أمك وأبوك، وبدأ ينزع ثيابي. أعتقدُ أنني دخلت في إغماءة لا أعرف مدّتها، ولكنني بدأتُ أصحو وأنا نصف عارٍ، وهو يصب ماءً مثلجاً على رأسي. بدأت أحسّ، وأول إحساسي كان ألماً شديداً في مؤخرتي. فهمتُ القصة، وبدأت أبكي، ولكنه هددني. قال إنه صورني، وإن تكلمت سيسرب المقطع على كل الشبكات، «ولا تزعل الكثير من الأولاد يعملوا اللي عملتوا اليوم»!.

خرجتُ لا أعرف كيف أمشي من الألم، وأحسست أن جميع النظرات موجهة إلي، وأن الجميع ينظر إلى مؤخرتي، ولكن لا أحداً كان مهتماً، فالجميع مشغولون بأمورهم.

في غرفتي التي أتقاسمها مع سامر تفحصت ثيابي الداخلية التي كانت ملوثة بالدم، ادعيتُ المرض ولم أخرج طيلة النهار، وعند المساء قررت الهروب واختبأتُ داخل خزانٍ كبير للمياه فوق سطح المهجع، طوال الليل وأنا مغمور بالماء إلى عنقي. لم تكن لدي خطة، وعند ظهر اليوم التالي لم أتحمل حرارة الخزان، فخرجت وعدت إلى غرفتي، وهناك كانوا يفتشون الغرفة ظناً منهم أنني هربت.

أخذني أبو عبد الله الكويتي والدعوي السعودي إلى مكتب أبو عبد الله، وكانت مفاجئتي الأخرى أن الدعوي يعرف ما حصل لي. وكانت مرة أخرى، واغتصبني الاثنان وأجبراني أيضاً على أن أمارسَ أنا نفسي ما فعلاه معي بالدعوي السعودي.

لم يكونوا يجرؤون على فعل ذلك مع أطفال المهاجرين، الذين كانوا يميزونهم عنّا في كل شيء، من الأكل إلى أماكن النوم إلى المكافآت، في كل شيء كانوا يميزونهم رغم أننا نمتاز عن الكثيرين منهم بكل شيء.

كانوا يركّبون كاميرات في كل مكان بالحمامات وغرف النوم وأماكن التدريب والدراسة. حاول سامر أكثر من مرة أن نختلي بعيدا عن الكاميرات، وفي كل مرة كان يتلعثم ولا يقول شيئاً. وفي إحدى المرات باح لي بكل شيء: لقد اغتصبوه هو أيضاً. وأبو الليث وأبو قسورة كذلك تم اغتصابهم بالسيناريو نفسه الذي جرى معي، ولكنه لم يصدقني بأنني نكحت الدعوي.

هنا كانوا كل عشرة أيام يجرون لنا تقويماً، فيرفعون قسماً منّا إلى مستوىً جديد، أو يخفضون. ودائما يغيرون ترتيب المجموعات بحيث أنك تمر في جميع الاختصاصات.

كانت أكثرية المنتسبين من عائلاتٍ فقيرة جداً، وحسب ما تحدثوا أنهم انتسبوا لأجل المال، ولمساعدة أهاليهم، ولعدم وجود مدارس. وأيضاً هم الأكثر استهلاكاً للحبوب التي كانت توزّع علينا لزيادة «التركيز والانتباه»، حيث كنا نبادلها بالشيكات التي كنا نحصل عليها، والتي لا أعتقد أن أحداً منا قبض ماله من رصيد هذه الشيكات، بل وأخذوا الدولارات التي أتينا بها من المعسكرات السابقة لوضعها برصيدنا كما قالوا. لعل كل الأمر كذبة، والرصيد وهمي. هؤلاء الأولاد المنحدرون من العائلات الفقيرة هم الذين أرسلوهم إلى تل أبيض لمحاربة الأكراد.

بعد مرور شهرين أخذونا إلى معسكر«أشبال العز» في الطبقة غربي الرقة، وهناك جرى احتفال مهيب، حيث تمت المبايعة قبل خضوعنا للدورة النهائية لمدة شهر جديد.

رددنا واحداً واحداً أمام الشرعي الأول، ولا أعرف اسمه، القسم التالي:

«أبايعُ خليفة المسلمين أبا بكر البغدادي الحسيني القرشي على: السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وعلى أثره، ولا أنازع في الأمر أهله، إلا أن أرى كفراً بواحاً، عندي فيه من الله برهان، والله على ما أقول شهيد».

هنا كان التدريب يختلف وأيضاً الشخصيات التي تزور المعسكر، وكنّا نعرف ذلك من استعداد الحرس، ومن الترتيبات المفاجئة التي كانت تحصل. وهنا أخذ كل منّا سلاحاً خاصاً به وعدة حربٍ كاملة، أنا كانت لدي بندقيتي الخاصة قبلاً، والتي دفعتُ ثمنها كما قلت لك. أيضا أعطونا سكاكين حقيقية كالتي تظهر في الأفلام التي يصورونها. وهنا أيضاً بدأنا نتدرب على الذبح بدايةً بدمىً تشبه لعب الأطفال، ولكنها أكبر وكانت جميعها دمى نساء. كل مجموعة رشّح منها قائدها للذبح الحي أفراداً قيلَ لنا أنهم من عناصر النظام. عندما جاء دوري في ذبح أحدهم، سألت الشرعي: هل هذا من قصف المدرسة وقتل والدي؟ لم يكن يعرف القصة، ولكنه قال لي إنه ليس طياراً، فقلتُ لأميري: أنا لن أذبحه، فوافقني.

وبدأنا نتدربُ على الرمي الحي بالبندقية والمسدس، والله لا أكذب، كنتُ من الأوائل، وكان سامر الأسرع في تثبيت اللاصقة بالسيارة قبل أن تلتقطه الكاميرا.

هنا لم يقترب مني أحد، ولكنهم تابعوا مع سامر، وكانوا يصورون كل شيء، كل شيء. انتحرَ اثنان آخران من مجموعة الكواتم بإطلاق النار على بعضهما في التوقيت نفسه، أعتقدُ أنهما فعلا للسبب نفسه الذي حاول سامر الانتحار من أجله وفشل.

في اليوم الخامس أو السادس من وجودنا في الطبقة صوروني بـ«رسالة لأمي» لم أعرف الغاية منها، وهي تشبه الرسائل التي كنا نصورها كل عشرة أيام، وتشبه الوصية لمن سيقوم بعملية في الغد. وهي رسائل أو وصايا مكتوبة سلفاً، كنا فقط نقرأها. وبعدها بعدة أيام أخذوا مني كل شيء اللباس والسلاح والذخيرة، وحتى الغرفة وفراش النوم، وأعطوني بيجاما جديدة «حرقتها أمي أول ما وصلت». ثم أخذوني إلى قيادة المعسكر، وهناك أروني كيف اغتصبني أبو عبد الله الكويتي، وأفهموني: «إذا تكلمت فأنت تعرف النتيجة»!

نظرتُ إلى جده وإلى أمه التي قالت: فلينشروا ما يريدون! أريد أن أحرّر ابني، ولا أريده أن يكون عبداً لماضيه. قريباً سأهاجر بهم إلى أوكرانيا حيث إخوتي، وسأجعلهم يبدأون من جديد.

أنا لست خائفةً على بِشر وبراء فقط، أنا خائفةٌ من نشوء جيل كامل تدرب على ما تدرب عليه بِشر، جيلٍ تكفيريٍ لا يؤمن إلا بالذبح.

حتى لو تحرّرت الرقة من داعش فإن إيقاف العملية التعليمية جريمة لا تغتفر، كان حلمي الوحيد أن أراه على مقاعد الدراسة.

المصدر : أحمد ابراهيم – الجمهورية