عن الرّقة، درس في صناعة الإرهاب

الرقة تذبح بصمت


تحررت مدينة الرقة شمال شرق سورية في شهر أذار من عام 2013 على يد الجيش الحر والفصائل الاسلامية وبذلك أصبحت اول محافظة تتحرر من سيطرة النظام السوري بكامل حدودها الإدارية، واقتصر وجود النظام فيها على مطار الطبقة العسكري غربي الرقة 50كم و قيادة الفرقة 17 واللواء 93 شمال الرقة بعدد لايتجاوز الـ 500 عنصر بهاتين الأخيرتين، بقيت المدينة على حالها هذا حتى تمكن تنظيم داعش من السيطرة عليها في كانون الثاني من العام 2014 بعد معارك دامية مع الجيش الحر خلفت أكثر من 200 قتيل بين مدني وعسكري، ولازالت هذه المدينة بقبضة التنظيم الذي خسر الريف الشمالي بالكامل على حساب وحدات حماية الشعب الكردية التي وصلت مشارفها الشمالية والغربية.

الأيام الذهبية كما يَطلق عليها أبناء المدينة كانت في الفترة مابين شهر نيسان وتشرين الثاني من العام 2013 حيث كانت مثلما أُريد بها من قبل أهلها خاصة والسوريين عامة، مدينة محررة يمارس أبنائها كل حقوقهم وواجباتهم بحرية مطلقة لا يعكرها صفوهم شيء إلا القصف الجوي الذي لم يحرك فيهم ساكناً بما أنه ضريبة التحرير التي ذاقتها كل المدن من شمال البلاد الى جنوبها.

بدأت نشاطات أبناء المدينة من خلال إنشاء منظمات مجتمع مدني مستقلة بلغت الـ 30 تجمعاً يختص كل منها بما تحتاجه الثورة والمدينة وأهلها، بداية من سد الثغرات التي تركتها قوات النظام في مؤسسات الدولة المفصلية من أعمال نظافة وتنظيم الى العناية بالحدائق والمرافق العامة وإزالة آثار الركام نتيجة القصف بالإضافة لأعمال الإغاثة والإسعاف وفرق الإنقاذ والدفاع المدني.

ولم ينتهي الدور في منظمات المجتمع المدني، حتى بدأ تأسيس مجلس المحافظة والمجلس المحلي في المدينة والمجالس الفرعية التي تتوزع في القرى والبلدات وكذلك إنشاء جهاز للشرطة المحلية، ودور القضاء التي قام بها قضاة منشقون وحتى دوائر الدولة التي لم يتخلف عن خدمتها موظفوها وخصوصاً الخدمية منها كمديرية الهاتف والمياه والكهرباء.

لم تكن الرقة مجرد مدينة خرج منها النظام بقدر ما كانت نموذجا ناجحاً في الثورة السورية، إلا أن هذا النجاح لم يناسب دول العالم وأصحاب القرار ومنهم أصدقاء الشعب السوري قبل أعدائه، فنجاح هذه التجربة يعني استنساخها وتعميمها بكل سوريا وبذلك تعجل في سقوط النظام والرضوخ لإرادة السوريين، وهو خط احمر ولايمكن الوصول اليه.

خصوصا أنها ثالث أكبر محافظة من حيث المساحة في سورية، وصاحبة المركز الثاني في إنتاج القمح والقطن بالإضافة لإمتلاكها أكبر منشأة في البلاد “سد الفرات” وأكبر منفذ بري في الشرق الاوسط “معبر تل أبيض” وموقعها الذي يربط بين حمص وحماة وحلب ودير الزور والحسكة وأمور عدة في حسبان المجتمع الدولي أبَت أن تجعل الرقة مثالاً لهذه الثورة ويجب تحويلها الى بؤرة إرهاب وجريمة.

إن بقاء الرقة على هذا الشكل يؤدي الى تقوية شوكة المعارضة وإتزانها عسكرياً وجغرافياً مع النظام السوري وبالتالي تقاسم الطرفين حكم البلاد بالتساوي او إجراء انتخابات عامة لإحدى الحكومتين كما تنص القوانين الدولية.

بقيت الرقة في مجدها هذا حتى بدأت الحرب بين تنظيم داعش والجيش الحر والفصائل الاسلامية بعموم سوريا، والرقة كغيرها بدأت ملامح الحرب فيها بنهاية العام 2013 عبر عمليات خطف واغتيال متبادلة بين الطرفين أدت في نهاية المطاف الى إعلان الجيش الحر معركة “فك العاني من سجون الجاني” بعد اختطاف تنظيم الدولة لقائد جبهة النصرة “أبو سعد الحضرمي” وعمليات اغتيال أخرى استهدفت قادة الجيش الحر وناشطين معروفين بثوريتهم، وما إن بدأت المعركة حتى استولى الجيش الحر على تسعون بالمئة من المدينة ليبقى عناصر التنظيم بالعشرات متمركزين بثلاث مقرات “مبنى المحافظة- الأمن السياسي- أمن الدولة” (سابقاً ) حتى بدأت أرتال التنظيم بالدخول الى الرقة وعلى رأسها “ابو عمر الشيشاني” قادمة من ريفي حلب وإدلب ودير الزور بعد انسحابهم من هناك، كانت هذه المؤازرات تقابلها انسحابات من الرقة لفصائل اسلامية كبرى ليبقى الجيش الحر وحيداً في المدينة لأسبوع كامل قبل أن تنفذ ذخيرته دون إمداده من الجهات الداعمة حتى انسحب الى عين العرب “كوباني ” شمال الرقة وريفي دير الزور وحلب، وبذلك سيطر التنظيم على مدينة الرقة وتلاها بالسيطرة الريف ومدنه.

بعد نهاية المعركة فرّ جميع ثوار الرقة وناشطيها الى تركيا وريفي حلب وإدلب عقب ملاحقة التنظيم لهم وإعدام العشرات منهم، بدأت تساؤلات تطرح من قبلهم عن أسباب خسارة هذه المعركة التي كان لامجال فيها إلا الربح خصوصا أن عناصر التنظيم في الرقة كانوا بالعشرات وبالمقابل الجيش الحر والكتائب الاسلامية بالآلالف إلا أن الإجابات لم تكن وافية حتى وقت متأخر حين تحدث بعض القادة العسكريين عن أوامر كانوا قد تلقوها من قادتهم “تحت ضغوط دولية” بضرورة الانسحاب من الرقة الى إدلب في وقت سهلت فيه قيادة هذه الفصائل خروج أرتال التنظيم الى الرقة، وسبق ذلك كله سحب جميع الأسلحة الثقيلة من الرقة الى ريف حلب وإدلب ولم ينتهي الأمر هنا حتى إن تهديدات وصلت اليهم إن لم ينسحبوا من الرقة سيتم قطع الدعم من بعض الدول الإقليمية التي تدعم الفصائل السورية والتي اشتركت أيضا بتسهيل ودخول مقاتلين أجانب انظموا الى تنظيم داعش في الرقة، هذه الحقائق لا يمكن تجاهلها او الطعن بها طالما أنها حدثت وأدت الى سقوط الرقة وتمدد داعش الى هذا الحد ثم إنسحاباته المتتالية أمام وحدات حماية الشعب بسرعة خيالية حتى وصلوا الى مشارف المدينة في حين يستميت التنظيم على أن لا يخسر شارعاً واحداً أمام الجيش الحر والقوات التركية في ريف حلب الشمالي.

تحولت مدينة الرقة من مثال بارز للثورة السورية الى بؤرة للإرهاب والجريمة ومركزا لإبراز العضلات وتهافت الدول والمنظمات المسلحة لقصفها وضربها وكسب الولاء من قيادة العالم المتمثل في روسيا وامريكا التي تدعي نصرة الشعب السوري.

اليوم وبعد مرور ثلاثة أعوام تكاد المدينة تسقط بيد الميليشات الكردية المتهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وعمليات قتل وتهجير وتغيير في البنية الديمغرافية للمنطقة، والتي ستصبح وتحول عنوة كما تشير الوقائع الى مثال يؤخذ به في الحرب على الإرهاب، ونتيجة لذلك تكافئ بانشاء كيان جديد من شأنه تغيير خارطة المنطقة عموما وسوريا على وجه الخصوص.

Founder of Raqqa is being slaughtered silently, journalist featured in film "City of Ghosts".