عن الرجال في زمن داعش

الرقة تذبح بصمت

في الـ 12 عام الماضية، لا أذكر أن شهراً مضى دون زيارة لذلك الفرع اللعين في دمشق، كانت الزيارة دائما في اليوم الأول من كل شهر لمكتب المساعد أبو عماد و الذي أجهل أسمه حتى اليوم بعد أن إعتاد الحرس على تدوين أسمي على قائمة الزائرين صباحاً. جلسة التحقيق في هذه الدولة تعتبر زيارة رسمية وعليك أن تزن كلامك وكل حرف يخرج من حنجرتك قبل أن تخسرها.

أبو أحمد الرجل الملتحي في العقد الخامس من عمره، كان يعمل مدرساً ومحفظاً للقرآن قبل عام 2001 وبعدها فصل وجرد من كافة حقوقه المدنية بعد وشاية من أحدهم على موقفه من الوريث القاصر بشار الأسد بالحكم وقيادة البلاد التي خلف بها أباه، وبما أن الرئيس الجديد منفتح للعالم ومواكب لتطوره الذي ينبغي منه منح الحريات العامة للشعب وتركه يعبر عن أراءه بشكل ديمقراطي لم يسجن أبو احمد إلا عاماً واحداً ليخلى سبيله لاحقاً مجرداً من كل شيء متعهدا بزيارة شهرية للفرع الأمني للإطلاع على أخر مستجداته والتأكد من عدم تكراره لمواقفه السابقة وإن حصل قد تطول الزيارة إلى شهر أو أكثر.

طيلة المدة الزمنية التي جمعتني مع أبو احمد في أحدا زنازين تنظيم داعش في صحراء بعيدة في ريف الرقة، لم يتكلم إلا عن المقارنات بين حاله هذا والحال الماضي في الـ 12 عام الماضية، تارة يترحم عليها وتارة يلعنها مبرراً ذلك أن متعة الموت هي على يد جلادك الذي حاربته منذ البداية، رغم قساوة الترحّم هذا، لكن أفضل من الحال الذي هو فيه كما يقول، “هنا لم احارب أحد وكنت أنظر فيهم خيراً رغم الاختلاف العقائدي الذي بيننا لكن في نهاية الامر يحملون البندقية ضد من ظلمني وظلم السوريين كما كنت أظن لكن وللاسف هؤلاء لم يوجهوا البنادق إلا على صدورنا وصدور كل من قالوا لا للاسد ولهم” قال ابو احمد.

بعد كل حلقة تحقيق أسبوعية كان يجلس لساعات طويلة دون أن اسمع له صوتاً حتى إن ناديت بأسمه، كنت أظن احيانا أنه فقد الحياة حتى إعتد عليه، لا يتحدث إلا في اليوم التالي عن مرارة الحال وعن الأطفال الذين لاتتجاوز أعمارههم أعمار أطفاله حين يحققون معه ويحاججونه بالشرع الذي لم يقرأو منه الا بضع ايات من سورة التوبة وبعض فتاوة أبن تيمية، يتكلمون ولا يسمعون إلا لولي أمرهم وأميرهم الذي قال فيه مرتد وعليكم بالمحاججة حتى تاتو بالدليل لتجزو رأسه.

يتحدث بحرقة قلب عن هذا البلاء الذي حل بالثورة السورية والسوريين عموماً وماسيحل بها منهم بعد أن تأكد من سوء نواياهم وأهدافهم التي دمرت افغانستان والعراق والصومال واليمن وبلدان عدة قامت ثورات وقمعت من هؤلاء لا من الحكام الذين ارادو اسقاطهم.

أكثر من شهر مر ونحن على حالنا هذا لم أعرفه منه الا صوته وحكاياته والوصاية التي تبادلناها إن خرج أحدنا قبل الأخر بعد أن وضعوني في غرفة داخل غرفة أخرى هو يحتجز بها ولا منفذ بيننا الا ثقب المفتاح الذي يصل الصوت منه ولا نصل أنا وهو “ابو احمد” اليه نتيجة تكبيلنا على زواية الغرف بسلاسل حديدة وأقفال فولاذية، خشية هربنا من هذا المكان، ولا أدري أين تهرب من هذا المكان!!! في السيارة تحتاج مسيرة ساعة كاملة في الصحراء وعلى طرقات وعرة حتى تصل الى أول طريق معبد وأول قرية ومكان قد يمكن أن تلجئ اليه.

خطف أبو أحمد من أحد اسواق مدينة الرقة في وقت الظهيرة والذروة دون مغيث أو مجير له بعد نداءات عدة، لم يستجب أحد من الناس ووقفوا في ذهول من أمرهم على هذا الحال الذي إعتادوا عليه مؤخرا ” الخطف بهذه الوقاحة” تاركا وراءه أبناءه وزوجته في لوعة الانتظار الذي تجاوز الثلاثة أعوام بتهمة كالتي وجهها إليه نظام الاسد قبل سنين طويلة لكن بلون مختلف ” خلافة باطلة وخليفة كذاب”، وهذا نصيبه من لسانه وصوته الذي سمعه احدهم وأبلغ عنه.

أحدهم هذا كما يقول ابو احمد، كان مخبرا لفرع الامن العسكري بالرقة ولم يترك من شره أحد واليوم أيضاً يمارس ذات الدور، فالسفالة لاتعرف خلافة أو ممانعة.

لا أعرف مصير أبو أحمد اليوم بعد ثلاثة سنوات من فراقه، أهو حي أم في عداد الاموات، ما أعرفه أن الأمانة التي حملتها منه، لم أكن اجرء على أيصالها، كان دمي هو جزائها بعد العهود والمواثيق والتنازلات عن دمي وأحلاله لهذه العصابة المجرمة إن أبلغت ذويه الرسالة التي وصلت بعد شهور من هربي من الرقة ومن كابوس الامانة.

بالأمس يحدثني أحمد سائلاً عن والده وأخباره إن كنت سمعت عنها شيء، لايمل هذا الشاب من جوابي باني لا أعرف شيء منذ ذلك اليوم، ليعود مرة أخرى بسؤاله المعتاد عن حال والده بالسجن ماذا ياكل وماذا يشرب وكيف ينام ويصلي! لم أعرف الما اكثر من هذا الالم، الم الاولاد والامهات والزوجات وكل من يقفون على حافة الانتظار، بحثا عن بصيص أمل يعيد لهم المفقود أو رصاصة رحمة تنهي هذا الشيء الذي ينخر في الذاكرة والوقت.