مابعد “12-1-2014” ليس كما قبله، لأهل الرقة خصوصاً وللعالم عموماً

الرقة تذبح بصمت

تصور أن تنام ملئ جفونك في مدينة بسيطة تمتد على كتف الفرات الأيسر لايعرف بها إلا أهلها وقليل من الأقربون وتستيقظ على سيرتها بلسان العرب والعجم يلقون التهديد والوعيد، خائفين ومذعورين، خشية منك ومن مدينتك التي أضحت عاصمة الإرهاب العالمي، ومركز تهديد للوجود البشري!!

في زياراتي القليلة والمحدودة إلى العاصمة دمشق، لابد لي من الأحتكاك بالناس هناك في “الميكروباص- المطاعم- المتاجر العام- إلخ ..” قليل منهم يتعرف على لهجتي التي كما يقال عنها “الشاوية” وكثير منهم يجهلها ويتسأل، عراقي أنت؟ أم من الخليج؟!

الكثير هنا لايعرف محافظة الرقة إن كانت بلدة او قرية، تتبع إدارياً لريف حلب أم دير الزور وحتى الحسكة! يجلهونها تماماً ليس بقصداً منهم، وإنما مِن مَن تعمداً ذلك وأخفى وجودها من على النشرات الإخبارية والجوية وحتى الرياضية، العلم والتعليم من كل شيء قد يرتقي بمكانتها، رغم أنها تمتلك أكبر سلة غذائية في سوريا “الزراعية والحيوانية” بالإضافة لعدد من المنشأت الصناعية والطبيعية، والوجوه الثقافية والأدبية، لكن لايمكن أن تتصدر المشهد وتصبح نصب عين السوريين، وللطغاة اسبابهم.

هذه المدينة البعيدة عن مركز القرار في دمشق، الخالصة لأهلها وللسواد الأعظم من السوريين، القريبة من الجار العدو “تركيا” هذه التي بدأت منها أُولى حركات التمرد في سبعينات القرن الماضي، والتي أيضاً إنطلقت منها أُولى رصاصة تجاه “القائد الرمز الأبد” حين زار ريفها، وكثير من الأمور التي تقتضي أن تُهمش وتبقى دون صوت او صورة.

أهلها البالغ عددهم مليون نسمة مقسمين بين مركز المحافظة الرقة ومدينتان رئيسيتان “الطبقة- تل ابيض” بالإضافة لعدد من البلدات والنواحي، ينتمي كلهم للعرب السنة بنسبة تجاوزت الـ 95% كلهم من القبائل العربية وقليل من المكون الكردي والأرمني والشكرسي بالنسبة الباقية، لايميزهم أحد ولايفرقهم بلهجة أو تراث وفن، جميعهم كما يقال “رقاويين”.

هذه المدينة البسيطة هي إمتداد تاريخي لتوتول عاصمة مملكة ماري التي قامت في الألف الثالث قبل الميلاد، وحاضرة الأموي هشام بن عبد الملك في قصر الرصافة، وعاصمة هارون الرشيد ومركز إنطلاق جيوشه الى الفتح، قبل أن يدمرها المغول بعد بغداد لتبقى خاوية على عروشها حتى بداية القرن التاسع عشر لتستقر فيها مجموعة قبائل ويعود بناء عاصمة ممالك الارض على أنقاضها القديمة وداخل سورها الاثري الذي يحيط بها من جهات ثلاث لتكون الرابعة من الجنوب نصيب الفرات.

عاشت قرنها الأخير في رخاء لا يعكر صفوها شيء، وسط أهازيج فنونها الشعبية التي تمتلك الطابع الفراتي بالإضافة لنهضتها الزراعية التي أصبحت ثاني أكبر مصدر للقمح في سوريا والاولى في إنتاج القطن الطبيعي، ناهيك عن أُدبائها وشعرائها الذين تنتشر كتابتهم من اقصى المشرق الى اقسى المغرب، حتى أصبحت دار الثقافة فيها من أكبر الدور في الشرق الاوسط وأطل على مسارحها كبار الفن والادب العربي بداية من النواب والقباني بشعرهم و شمة والرحباني بعزفهم وغيرهم الكثير.

ثارت كغيرها من مدن السوريين على الظلم والطغيان على الأستبداد وعصره لتلقى ما لقيه السوريين في البداية ومالم يلقوه في النهاية التي لم تنتهي بعد! تحررت كأول مركز محافظة لتكون –كما أراد اهلها- عاصمة مؤقتة للثورة ومركز قرارها السياسي والعسكري بغية الأستغناء عن إيديولجية الجوار التي تفرض شروطها مقابل المكان والامان، لكن كل الأحلام بأت بالفشل وذهبت مع الريح بعد الإجماع العالمي لتحويلها من مثال الحرية الى بؤرة إرهاب عالمية.

بعد تسعة اشهر من الحرية التي نشدها السوريون، جاء عصر الظلام وبدأ عصر أخر من الاستبداد بشكل أخر ولون أخر.

مابعد "12-1-2014" ليس كما قبله، لأهل الرقة خصوصاً وللعالم عموماً

اليوم كان نهاية العام الثالث على سيطرة تنظيم “داعش” على مدينة الرقة وريفها بعد معارك طاحنة مع الجيش الحر والفصائل الإسلامية التي أدت إلى مقتل وجرح المئات نصفهم من المدنيين والنصف الأخر قُسم بين المتصارعين على المدينة.

لم يكن بمحظ الصدفة أن يبقى المقاتلين من أبناء الرقة صامدين لـ 12 يوماً من المعارك ويفر آخرون، من يملكون السلاح والعتاد والقرار ببدء المعركة، من دفعوا ارتال التنظيم من ريفي إدلب وحلب الى الرقة وأنسبحوا إلى هناك، كانت الرقة في الأيام الستة الاولى تحت سيطرة الجيش الحر وأحرار الشام بإستثناء “المحافظة” المقر الوحيد المتبقي للتنظيم الذي كان ينوي الإنسحاب لكن بمماطلة لكسب الوقت وكأن شي سيحدث وستميل الموازين وبالفعل هذا ماحدث بعد إنسحاب الحركة الى إدلب وحلب.

تحولت المدينة من عاصمة التحرير الى عاصمة الارهاب وبدأت الدول العظمى بالحشد للقضاء على الارهاب، وبدأ الكل ينفذ مايريد ومايطمح بحجة الارهاب، الاسد رأس الارهاب يحارب الارهاب، روسيا وامريكا وفرنسا يحاربون الارهاب! تصور ان هذه الدول التي قتلت الملايين في افغانستان والعراق وافريقيا تحارب الأرهاب ويحشدون الحشود ويجمعون الجند والمرتزقة، ويرسلون السفن والطائرات لتحارب الارهاب الذي انشأوه!.

اليوم وبعد كل هذا الذي حدث ويحدث لازال أهلها الطيبون على عهدهم القديم في الفن والأدب في ليال السمر، يمارسون كل طقوسهم سراً في مدينتهم وعلانية في المنافي التي أمتلئت بهم في كل بقعة على هذه الارض ولازالو على الوعد والوعيد عائدون.