عن عبد الله، حين يموت الرجال قهراً

الرقة تذبح بصمت

كان الناس يلقون نظرة الوداع على وجه ابو عبد الله قبل ان توضع اخر بلاطة في قبره وتنهال اطنان التراب عليه، لكنها ايضا كانت نظرة وداع لأبنه الذي كان يبكيه قهرا قبل ان تعتقله داعش من بين الاحياء لتضعه بين الاموات بعد ان شق صوته عنان السماء بكلام زلزل عروشهم وحرك غريزة القتل في نفوسهم.

حمل عبد الله ابيه بسيارة استأجرها واخذ طريق الشمال بغية العبور الى تركيا بحثا عن العلاج بعد ان ضاقت به السبل في مدينة الرقة ومشافيها التي تفتقر لابسط الادوية والاجهزة الطبية منذ سنوات.

طيلة الطريق الوعر يترقب عبد الله وجه ابيه المتعب، يقبل يديه ويمسح جبينه راجياً ربه الشفاء والوصول بالسلامة قبل ان تقف السيارة يميناً على حاجز “الشركراك” او كما يسميه ابناء الرقة حاجز “الضمير” نظراً لسوء سمعته وقذارة عناصره السابقين والحاليين. بلغة عربية مكسرة، وين الطريق؟ والله على تركيا، شايبنا –ختيارنا – مخطر وماخذينه اسعاف على تركيا. من وين انتم؟ من الرقة اي ممنوع الدخول على روجا افا يا دواعش !! بس الرجال بخطر واحنا مدنيين مو دواعش. ارجع على الرقة. يا أخوي مشان الله. على الرقة ولاحرف يلا لا افضي هالمخزن براسك، دواعش كلاب. اتجهت السيارة جنوباً ولا صوت يعلوا انين ابو عبد الله، عبد الله والسائق الدمع ينهمر من عيون الاثنين دون اي كلمة، يقطع صمتهم صوت قدح ولاعة ودخان يمضي مع الريح من نوافذ السيارة.

الى اين الطريق؟ يسأل السائق، دون اجابة من عبد الله، لا يدري هو الاخر الى اين! انهارت كل قواه واصبح اضعف من ان يأخذ قرار يؤجل موت والده لساعات قليلة، رغم انه كان يحمل كل صفات القيادة وحسم الامور بسرعة، هكذا يعهده الناس والسائق ايضاً الذي يعرفه جيدا.

دون تفكير او خارطة طريق، اتجهت السيارة غرباً بعد ان تجاوزت دوار المقص لتسلك طريق حلب بمحاذاة نهر الفرات من ضفة “الشامية” كما يسميها اهل الرقة، عدة حواجز تفتيش على الممنوعات من قبل عناصر داعش المنتشرين على الطريق المؤدي الى ريف حلب الشمالي لم تعيق عبدالله من وجهته الى اراضي الكفر ما طمئن قلبه قليلاً.

كان الطريق المؤدي الى ريف حلب الذي يسيطر عليه الجيش الحر يزدحم بالحواجز والتفتيش على عكس طرقات الشمال المؤدية على مناطق سيطرة الميليشيات الكردية، التي تخلوا من اي حواجز او اجراءات تفتيش باستثناء الحواجز القريبة في تل السمن والهيشة، لا يوجد سبب مقنع لذلك لا يوجد مبرر للتشديدات الامنية على الطرقات المؤدية الى الجيش الحر ولايكون مثلها او اكثر للتي تذهب الى مناطق عدو يفترض انه اسوء ما يهدد “دولة الخلافة” ووجودها.

هذا اخر حاجز، ان شاء الله نعديه ونصير بأراضي الحر، بهذه الكلمات يطمئن السائق عبد الله قبل ان يقف يميناً للتفتيش مجدداً.

السلام عليكم عليكم السلام وين رايحين اخي؟ على تركيا، عندنا الشايب مخطر واخذينه اسعاف عندكم ورقة عبور؟ لا والله ياشيخ جبناه اسعاف يانلحق يامانلحق ايوا،،، اي وليش ما اسعفته على مشافي الموصل، الا.. تحبون تنفيع الكفار يا كفار، والله لو الامر بيدي الا اذبحكم كلكم ياقريضة العرب. يالله ارجع وعالج والدك بمشافي الدولة الاسلامية فيها كل شيء. ياشيخ الله وكيلك مافي مركز قلبية والوالد معاه جلطة. ارجع يلا ولاتناقش لا انحرك جدام ابوك.

خليط من المشاعر بين الغضب والجبروت الذي يدفعه للعودة وقتل كل من على الحاجز والضعف الذي شل اركانه خشية على ما تبقى من انفاس في صدر والده وبين الحزن والاسى على حاله، كلها ظهرت على وجه، في عينيه وفمه، في جبينه وعقدة حاجبيه، يده المرتجفة، انهار دفعة واحدة.

هذا الطريق الذي كان يستغرق ساعتين في ما مضى، اصبح 6 ساعات نتيجة الطرق المقطوعة والممنوعة بالإضافة للسير البطيء خشية نكسة تصيب ابو عبد الله الذي فارق الحياة في شوارع الرقة الخاوية في ساعات المغيب الأولى.

لا يدري الشاب الثلاثيني ما حل بوالده الا على باب منزل اهله الذي ضج اركان الحي بنواح عائلته التي بكت اعوامه الستين ليموت هكذا، بين الحواجز والطرقات دون رأفة او رحمة من احد، مات هكذا دون سبب، بضعف عبد الله وسوء تدبيره كما صاح وندب، كما بدأ يلوم نفسه. بكى الحي ابو عبد الله مرة، وبكى عبد الله ابيه الف مرة، بكاه قهراً وضعفاً بكاه على الطريق وحواجز التفتيش بكاه في كل متر دارت عليه عجلات السيارة.

ما إن طلع فجر جديد، حتى كان “صيوان” العزاء يفترش الشارع، والقبر محفور والناس في تجمهر لتشييع ابو عبد الله ولاحقاً ابنه الذي صاح قهراً، نطق كل مافي صدره عن كل ابو عبد الله وكل عبد الله في هذه المدينة الى ان سحبه عناصر داعش المشيعيين في جنازة ابيه الذين جاؤو لكسب الاجر والقيام بالواجب للرجل الذي لا يعرفونه ولا يعرفون من قتله!.

هوية بنطال وقميص ومحفظه على باب المنزل هذا ماتبقى من عبد الله في سجون داعش بعد ان احضرها احد عناصر التنظيم، الذي لم يكلف نفسه بابلاغ ذويه انه مات، اهو مات قهراً ام اعداماً ام ماذا!.

مات منذ دخل هؤلاء الى المدينة، ولم تكن حياته الا جسداً بلا روح تمضي به الايام، وهم كذلك كل اهل المدينة، يموتون قهراً وحزناً، يبكون المدينة واهلها الصامدين على جراحهم على المهجرين والمنفيين على الاموت تحت التراب وفوقه.