عائدون إلى الرقة

الرقة تذبح بصمت

ريفي حلب وإدلب، أورفا عينتاب مرسين إسطنبول، فيينا برلين، أمستردام وباريس، واكثر من عشرون مدينة حرثنا شوارعها طولاً وعرضاً في العامين الأخيرين، بحثا عن مدينة تأوينا وتؤنس وحشة المطرود والمطارد في بلدان العالم.

كان ذلك قبل عامين وثماني اشهر، حين طُرد الشباب الرقي من مدينتهم التي حرروها بدمائهم، بعد سيطرة تنظيم داعش عليها بداية العام 2014 وشن حملة إعدامات بحق أبناءها “الثوار” بتهمة “الثورة” التي تحمل راية العلمانية حسب ادعاء التنظيم.

هؤلاء الثوار نفسهم، طردهم نظام الأسد قبل 5 سنوات بتهمة ” الثورة” التي تحمل راية السفلية الجهادية وتدعوا لقيام دولة إسلامية في سوريا، بحسب ادعاء النظام أيضاً.

أخيراً وقبل عام، قالوا من شوارع المنفى، أن التغريبة قد انتهت، ولابد من العودة، حين سيطرت وحدات حماية الشعب الكردية ولواء ثوار الرقة التابع للجيش الحر على مدينة تل أبيض بريف الرقة الشمالي رافعين راية “الثورة”، لكن تنبؤاتهم هذه خابت وانقلبت عليهم، بعد حملة التهجير العرقي الممنهج بحق العرب والتركمان في المنطقة، إضافة لحملات الدهم والاعتقالات بحق الشباب هناك، وبتهمة الإنتماء لتنظيم داعش، ناهييك عن وضوح الرؤية عن عمالتهم مع الأسد وحلفائه.

هذه اللعنة لم تكن داخل المدينة وريفها فقط، بل كانت تلاحقهم في كل مكان وكأنها جاءت على الأسماء في الهوية والمنطقة الجغرافية، حين بدأ كل من داعش والوحدات الكردية، بشن عمليات أمنية داخل ريف حلب وإدلب وتركيا طالت عدد من الثوار المدنيين والعسكريين سواء بمحاولات خطف أو اغتيال.

أحياناً تنتابني عبثية عجيبة، هل نحن إزدواجيين إلى هذا الحد! أم أن هؤلاء على الحق ونحن على الباطل!.

لماذا يتشرد الألاف من الشباب من “الجزيرة” السورية عموماً والرقة خصوصاً ؟ لماذا يستولي التنظيم والقوات الكردية على ممتلكاتهم ويعتقلون أهلهم ويلاحقونهم في كل مكان؟ لماذا يهجر ثلثي أهل المدينة خوفا من سكاكين الأرض وطائرات السماء التي لم نعد نعرف من أين تأتي وماهي جنسياتها؟ لماذا جار الزمان علينا واصبحنا مطرودين من ارضنا وغير مرحب بنا في المنفى؟ من يجيب على هذه الأسئلة المستعصية؟.

سئلني سائق تكسي في عينتاب التركية ذات مرة، من أين أنت؟ من سوريا؟ فقلت دون تردد من الرقة، فقال بدهشة ” إيشت” –داعش بالتركية- وأنا على يقين أن هذا الرجل لا يعرف أين تقع الرقة في الخريطة ولم يسمع عنها طيلة عمره إلا في نشرات الأخبار.

هنا في البلاد التي لا تعرف من سوريا إلا تنظيم الدولة، في أوربا وأثناء إجراء معاملة الإقامة، لا يسألني موظف دائرة الأجانب عن مدينتي، بقدر ماهو خائف مني، يخشى عنواني وهويتي، يحاول جاهداً تسيير أعمالي والابتعاد عني، يحدث زملائه بالفرنسية التي لم افهم منها إلا “ايسيس”.

في كل هذه المواقف التي تحدث لي ولغيري من أبناء الرقة نقول سراً وعلانية “سبحان مغير الأحوال” قبل الثورة لم نكن نسمع بالرقة في الأخبار ولا حتى أحوال الطقس، والآن الشغل الشاغل لهذا العالم الذي لا تكاد محطة إعلامية أن تنهي نشرتها إلا بذكر اسمها.

رغم يقيننا بنهاية هذه المأساة لكن نخشى ذلك اليوم الذي يعودون به بالرقة إلى ما كانت عليه ويختفي اثرها عن الأخبار والوجود، لا سمح الله، بعد حملة تخليص العالم من الإرهاب بحسب ادعائهم، الإرهاب الذي يتلخص في تدمير مدينة ومجتمعها بأكمله دون رحمة أو شفقة.

في الختام ليس في هذه المدينة ما يميزها عن 13 أخرى في جمالها أو خرابها، ولا أسباب منطقية “للردح” عليها بشكل مبالغ به عن غيرها، صيفها حار وطويل، مغبر أحياناً، شتائها قاس، يطغي الفقر على غالبية أهلها، فنها المعماري اقل من غيره وتاريخها غائب، لكن عائدون نكاية بالقتلة على اقل تقدير، هكذا يصيح منفيون خارج الحدود وعلى هذا العهد هم باقون.