بين فقه الدماء وإدارة التوحش: داعش تطوّر أساليب الرعب

الرقة تذبح بصمت – achariricenter

منذ الإعدام ذو الطابع الهوليوودي للصحفي الأمريكي جيمس فولي، ما زالت تنظيم داعش يستمر في مفاجأة المتابعين له ولإصدارته الإجراميّة في أصقاع العام كافة. بإمعان النظر في إعدامات التنظيم ذات الطابع الهوليوودي، نرى أنها ليست فقط احتفالا بألم الأعداء والشماتة، وإنما وراءها عقلية تستهدف جماهير محلية ودولية. وبدايةً لمحاولة فهم هذه الظاهرة وتفكيكها، يجب العودة للمنبع الأساسي الذي انبثق منه داعش.

كانت اللبنة الأولى لتنظيم داعش هي جماعة التوحيد والجهاد، والتي عرفت فيما بعد بـ تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، التي أسّسها أحمد فاضل نزال الخلايلة، الشهير بــأبو مصعب الزرقاوي، والذي مثّل حالة متمايزة ًفي الجهاد العالمي. اعتمد أبو مصعب الزرقاوي في إدارة كيانه الناشئ على فتاوى أبو عبد الله المهاجر في كتابه فقه الدماء، وعلى نظريات أبو بكر ناجي في كتابه إدارة التوحش، الكتابان يعتبران مرجعان أساسيان ويدرسان ضمن أوساط تنظيم داعش. كانت سياسة أبو مصعب الزرقاوي تمثل قطيعة مع السياسة التقليديّة النمطيّة لتنظيم قاعدة الجهاد العالمي، أما منهج الزرقاوي فقد ركّز على البعد “الهوياتي” للصراع عن طريق تكفير الشيعة، وباعتبار أن الأولوية هي قتال الأنظمة العربيّة “الكافرة.” الأمر الذي جعل منهج الزرقاوي منهجاً متطرّفاً، حتى في نظر مُنظري السلفيّة العالمية أنفسهم.

كان الزرقاوي أول من سنّ طريقة جزّ رقاب الرهائن الأجانب، حيث قام الزرقاوي بذبح أحد الرهائن الأمريكيين في العراق ويدعى يوجين ارمسترونج، وذلك بحزّ عنقه بسكين في فيديو مُصوَّر، وقد قامت جماعة التوحيد والجهاد بنشره على الإنترنت. إذن الزرقاوي هو القدوة والمثال لقادة تنظيم داعش، عندما قرروا السير في هذه السياسة الترهيبيّة، واستخدامها لتوجيه رسائل إلى الحكومات الغربية.

في بدايات ظهور تنظيم داعش كان عبارة عن جماعة صغيرة، لا يتجاوز تعداد أفرادها الأربعين عنصراً أو يزيد، كانت يركز نشاطه على الأعمال الدعويّة والتعريف بالإسلام الصحيح، كما تراهُ عناصر التنظيم، ومحاولة نصح الشباب وحضهم على العودة إلى الفريضة المتروكة والجهاد. لاحقاً، بعد صعود هذه الجماعة، لجأت إلى تكتيك الخطف والاغتيال، خاصة ً للنشطاء البارزين في الشارع الرقاوي، لإيصال رسائل لكل المخالفين، إما الصمت عن ممارساتنا أو مواجهة مصائر مشابهة لأصدقائكم.

بدأت مسلسلات الإعدامات الميدانية، بحسب مصادر متوافقة في مدينة الطبقة السوريّة. حينها كان تنظيم داعش لا يزال يُعرف بـالدولة الإسلامية في العراق والشام، حيث قامت عناصر من التنظيم بإعدام ديب عليوي يوم 17 مارس/آذار 2013، بتهمة التجسس وأنه عميل النظام. وضّح هذا الإعدام استناد داعش إلى ذرائع وحجج، يسوقها أعضاء التنظيم في إطار عدائهم للنظام وفي سياق حربهم “المزعومة” ضده. فالإعدام هو وسيلة وليس غاية في حد ذاته، من أجل إرهاب العامة بغض النظر عن طريقة تنفيذ الإعدام.

أولاً: الجمهور المحليّ

في مطلع عام 2014، تمكن تنظيم داعش من تقويض سلطات خصومها المحليّين، وتخلص من الكتائب المتواجدة في الرقة، مثل المواجهة مع لواء أحفاد الرسول، والمعركة الشاملة مع كتائب الجيش الحرّ وأحرار الشام وجبهة النصرة، ثم عمل على بسط سيطرته وفرضه رؤيته على سكان المنطقة. فبدأ التنظيم بالتطبيق الحقيقي للمرجعية الفقهية التي تنهل منها عناصره، والتي ترتكز على نظريات كتاب إدارة التوحش لأبي بكر ناجي.

“الشوكة الكبرى والتي يعمل لها العدو ألف حساب هي محصلة شوكات المجموعات، سواء مجموعات النكاية أو مجموعات الإدارة في مناطق التوحش، ففي وجود موالاة إيمانية بين كل هذه المجموعات، تتمثل في عقد مكتوب بالدماء أهم بنوده، الدم الدم والهدم الهدم تتحقق شوكة كبرى يعجز العدو عن مواجهاتها.”

هذه الفقرة عبارة عن شرح بسيط لكيفية رد الجماعة على أي هجوم عليها، كفريق أو جسم متوحد.

ولكن هذه الفكرة تعني، على الصعيد المحلي، أن داعش يريد إظهار للناس المقيمين في مناطقه أن أي مخالفة هي ضد الدولة، ككائن سياسي، وليست ضد فرد أو عنصر فقط. الإعدامات هي محاولة داعش لإثبات وجوده كدولة في أذهان المحليين، من خلال ترهيبهم وتطبيق العقاب على أجسام الناس، موجها رسالة أنه ليس هناك شيء مقدس، وأن كل شيء ملك الدولة. لذلك، يقوم التنظيم بحفلات الإعدام الجماعي للعناصر المخالفة أو المارقة بالساحات العامة، مثل دوار النعيم في مدينة الرقة وغيره، كما قام بصلب المخالفين بما فيهم أطفال، كي يشاهدهم الأفراد الخاضعون لهيمنة التنظيم. يفسر هذا أيضا سبب بدنية العقاب مثل الجلد وقطع اليد، فكلها عبارة عن تطبيق قانون الدولة على أجسام مواطنيه، حتى يخضعوا لها، ويعرفوا ان وجودهم هو مللك لهذه الدولة، تتصرف فيه كما تشاء.

ثانياً: الجمهور العالمي

مثلما كان هناك انقلاب وقطيعة مع سياسات القاعدة على الصعيد العملياتي والهوياتي، فقد شهدت فكرة الجهاد العالمي نفس القطيعة. حيث طورت داعش أساليب بث الإعدامات وإعلانها، كما نرى في عمل جنيد حسين، المعروف بأبو حسين البريطاني، العقل الإلكتروني لتنظيم داعش والذي كان جزءاً من فريق السم (Team Poison) الذي ادعى اختراق نحو 1400 حساب من حسابات رجال أعمال وشركات ومؤسسات دولية ووكالات انسانية حول العالم، قُضى على أبو حسين في إحدى غارات التحالف. أبو حسين هو الذي غرّد لليافعين عبر تويتر “بدلاً من أن تلعبوا لعبة كول أوف ديوتي (Call of Duty) من وراء حواسيبكم تعالوا وجربوها على الواقع هنا في الرقة.” فيديوهات داعش تتصف بإمكانيات تقنية عالية، وجودة تضاهي أحدث الأفلام. يُضاف إلى ذلك أنّ من يقوم بهذه العلميات هو جهادي أجنبي، يتكلّم اللغة الانجليزية لتوجيه رسائل إلى الحكومات الغربية.

الرسالة المباشرة للفيديوهات هي بث الرعب وردع الحكومات عن محاربة داعش، كما يتضح في فيديوهات قتل كل من الصحفي جيمس فولي وعامل الإغاثة البريطانيديفيد هاينز وغيرهم. إلاّ أنّ استخدام هذه التكتيكات يحمل ذات الرسالة التي مُفادها: الإرهاب العابر للحدود والضغط على الحكومات، بحيث يقوم أهالي الضحايا والمتعاطفين معهم بثني هذه الدول عن القيام بأية خطوات تضرّ التنظيم، حتى يمكن إنقاذ حياة الرهائن الباقيين في سجون التنظيم. كما يستفيد تنظيم داعش من ردود فعل الدول المستهدفة القاسية ضد الأجانب والمسلمين والإسلام، فإن هذا الكلام ينفر المسلمين في هذه الدول، ويثنيهم عن الاندماج في المجتمعات الغربية، وهو ما يستغله تنظيم داعش لاجتذاب المزيد من العناصر الجديدة وحتى الشابة، التي تشعر بالغربة وبالغزلة، الأمر الذي يدفعها للانضمام للتنظيم.

ثالثاً: الجمهور العربي

تختلف رسالة داعش الموجهة للجمهور العربي عن الجمهور العالمي في ناحية واحدة. تم تشكيل التحالف الدولي لمحاربة داعش في أغسطس/آب 2014، بعد سقوط الموصل في يد التنظيم، واقترابه من إقليم كردستان بغداد، بدأت المقاتلات الأمريكية في 8 أغسطس/آب أول ضرباتها في العراق، لحماية أربيل من السقوط بيد داعش، ولاحقاً انضمت العديد من الدول الغربية والعربية للتحالف عن طريق المشاركة المباشرة أو الدعم اللوجستي. في صباح يوم الأربعاء 24 ديسمبر/كانون الأول 2014 سقطت مقاتلة معاذ الكساسبة، الطيار الأردني (ويقول البعض أن تنظيم داعش أسقطها) فهبط الكساسبة بمظلته على نهر الفرات، ووقع أسيراً في أيدي التنظيم.

أتاحت هوية الكساسبة لتنظيم داعش، باعتباره عربي مسلم ينتمي لبلد تحارب التنظيم، فرصة جديدة، فاخترع طريقة مغايرة للإعدامات السابقة، ونشر الإصدار المُسمّى “شفاء الصدور.” حيث يظهر فيه الكساسبة ببزته البرتقالية اللون، مُتحدثاً عن الدول المشاركة في العمليات العسكرية، وطبيعة هذه العمليات والأسلحة المستخدمة فيها. احتوى الفيديو على عدد من الرموز المهمة، الكساسبة داخل قفصٍ حديدي وتشتعل النار فيه وهو حي، ثم يكتملَ المشهد بقدوم جرّافة لتهيل التراب فوقه فتنطفئُ النار، ولا يظهر أيُّ أثرٍ لجثته. كلُّ هذا التوحش اللامسبوق جاء لإيصال رسائل انتقاميّة وتحذيريّة للجوار العربي والمسلم الذي يريد أن يحارب التنظيم، كأن داعش يقول إن العقاب سيكون مضاعفاً للمسلمين والعرب الذين يتجرؤون على حرب التنظيم.

بالطبع لم تتوقّف العقليّة الإجراميّة للتنظيم عند هذا الحد، ففي كلّ فترة يحرصُ التنظيم على ابتداع أساليب مبتكرة لإنهاء حيوات البشر الذين وقعوا في يديه، وتباينت طرائق الموت التي يستخدمها عناصره بين (الإغراق، وضع صاعق متفجّر حول عنق الضحية، الرمي من علو شاهق وهي مخصصة لحالات اللواطة، إضافة للأساليب الاعتيادية كرصاصة في الرأس وجز الرقاب).

آخر مشاهد “التفنَّن بالموت” كانت بالرقة، التي عانت من كلّ صنوف الموت الداعشية والقصف الدوليّ، في الصور الأخيرة لعملية الإعدام يظهر مقاتلو التنظيم المُلثّمين كعادتهم وهم يمسكون بالضحيّة المُعْصوبة عينهُ، ويحمل أحدهم سكينة يضعها بكل برود في منتصف قلب الضحية تماماً.

في حين تتقدم القوات المحلية بالدعم الدولي، من المحتمل أن يستمر التنظيم في فرض سلطته وتأكيدها من خلال الإعدامات العلنية، لإبقاء المجتمعات المحلية تحت سيطرته.