“داعش” وإدارة التطرف

خاص – الرقة تذبح بصمت

ظهر تنظيم “داعش” بعيد ظهوره على الساحة السورية في عام ٢٠١٢ كحالة متطرفة غير مفهومة لكثيرين ممن استغربوا إنضمام أعداد كبيرة من الشبان إليه وهجرة آخرين من الدول الأوروبية إلى مناطق سيطرته والذين قدّرت إحصائات غير رسمية عددهم بأكثر من خمسة آلاف شخص، فمالذي يدفع هؤلاء للسفر إلى رقعة جغرافية يعلمون أنها لن تجلب لهم سوى عداء العالم وصعوبة العيش إلا أنّها وبالرغم من ذلك تحقق لهم الحد الأدنى من أسباب وجودها.


فلنتفق أولاً على أنّ هذا النوع من الأفكار لم يأت نتيجة استنتاجات فكرية منهجية تقوم على اختيار أفضل الموجود لنصرة الإسلام والمسلمين في سوريا والعراق خصوصاً والعالم عموماً، إنما هو حالة نفسية وإجتماعية فرضتها ظروف معينة استند أصحابها في تبريرها على نص شرعي أو قياس فقهي أو حالات تاريخية لها وجودها ربما، والذي يوازي بدوره نشوء عدد كبير من الجماعات أو الأحزاب أو الحركات الإيديولوجية المعتمدة على بعض المفاهيم الموروثة لتحقيق الحشد الشعبي والتي تعد ركيزة أساسية لكل تجمع فكري أو سياسي ولا وجود لها دونها، حيث لا يتم ذلك إلا استناداً على المرجعية الثقافية للمجتمع ومداعبة فكرها الأساسي.
"داعش" وإدارة التطرف

وعلى سبيل المثال، فإنّ المجتمعات العربية دينية بالدرجة الأولى، ولم يكن فكر تنظيم داعش وليد اللحظة وإنما هو حالة وجدت فتطورت ووتقولبت عبر عشرات السنين لتصل إلى شكلها الحالي بعدما بلغت قوتها، وبحسب القاعدة العامة فإنّ لكل فعل رد فعل يعاكسه بالإتجاه كذلك هو التطرف بشكله الداعشي فهو نتيجة تطرف مقابل ازداد بشكل متوازي على مرّ السنين.

وقد لا يرى العالم ذلك التطرف المقابل لأنه لم يظهر بشكله الوحشي كما ظهر تطرف التنظيم منذ بداية وجوده، ولأنه واقع عشناه يومياً تحت ستار محاربة الإرهاب وبشكل رسمي تحت كنف الحكومات، فلو أعدنا النظر في عدد الدول الإسلامية والتي تم غزوها او قصفها في العقدين الأخيرين والدول التي دعمت الحكومات القمعية بشكلها الإرهابي بصفة رسمية وساعدتها لإفناء الثورات الشعبية ضد المستبدين الذين كانوا اللبنة الأساسية في نشوء التطرف، لفهمنا أنّ نشوء تلك الجماعات الإرهابية هو نتيجة طبيعية للإرهاب المقابل إلا أن الأول لم يستطع تقبل ذلك واختار الرد بنفس الآلية “آلية القوة والقتل”.

عامل آخر لعب عليه “داعش” واستمد منه الشرعية اللازمة، إذ توّج حالة التطرف تلك بإعلان الخلافة ونستطيع القول هنا إنه أدار حالة التطرف بشكل جيد، فالخلافة هي الهدف الذي دعت وتدعو إليه كل الجماعات والحركات الإسلامية خلال المئة سنة الأخيرة، فحاول أن يقطع الطريق عليهم جميعاً وهم يستدلون على ذلك بأدلة شرعية متعلقة بشرعية الأسبقية بالبيعة، فعلى سبيل المثال كما في حديث {إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما} ولكن مؤكد أن كثيرين سيتداعون لإنكار ذلك وادعاء أن الخلافة ليست كذلك وليس هذا وصفها، ولكن ذلك الخلاف لا يلغي حقيقة أن عشرات الآلاف وربما أكثر قد هاجروا من أنحاء العالم لإيمانهم بتلك الخلافة، أما ما نراه من أمور يستنكرها معظم المسلمين، فما أسهل التبرير عند الإنسان وما أقدره على أن ينتقي ما يصدق وما يكذب!
"داعش" وإدارة التطرف

إعلان الخلافة والذي يشكل عند المسلمين هدفاً يجاهدون من أجله ويضحون بأنفسهم في سبيله، كامن في وعي الشعوب الإسلامية وليس في مقدور أحد أن يقنعهم أن تلك الصورة التي رأوها عند إعلان الخلافة ليست صحيحة بالكلية، وبخاصة أن التصور المهيمن على عقولهم فيما يتعلق بها له مظاهر شكلتها عوامل كثيرة خلال السنوات الماضية وعمل تنظيم داعش على استغلالها جيداً على الصعيد الإعلامي تحديداً فأظهر الهدف وأعلنه بوضوح بطريقة منسجمة مع الواقع الاجتماعي، في الوقت الذي تتسم فيه أهداف بقية الحركات الإسلامية بالإبهام والتشويش وإن ادعت أن ذلك من السياسة، فعندما تخاطب شعباً ما فإنه سيفضل الخطاب الأول بكل تأكيد، كونه ليس معنياً بتفسير قول وتحسين الظن بكلامك.

لا ينفي ذلك بالطبع الخطأ القاتل الذي وقع فيه تنظيم داعش وهو قتله للمسلمين السنة بالتحديد، فاستعدى بذلك قاعدة جماهيرية ضخمة وكان من الممكن أن يظفر بها فقط لو تجنب الحكم على هؤلاء بالردة وقتلهم بناء عليه، ولو فعل ذلك لاختلف الوضع تماماً ولكان ذلك ممكناً لولا أن لأحدهم مصلحة في أن يستعدي المسلمين على تلك “الدولة” الوليدة.

يقف تنظيم داعش على مفترق طرق مهم جداً، فهو إما أن يتوقف عن تكفير غيره من حركات ودول إسلامية وذلك يعني تخفيف حدة التوتر إلى درجة كبيرة، وقد يتيح له ذلك لعب دور مهم في مستقبل المنطقة، أو أن يستمر في تطرفه واستعدائه للآخرين ما يحتّم وصوله إلى يوم يضطر فيه إلى قتال المسلمين السنة بالدرجة الأولى وبالتالي خسارته بكل تأكيد، لكن بعد أن يلحق بنا من الأذى ما الله به عليم.